-
الشرق الأسير
عندما يقال الشرق، فالمعنى يتجاوز حدود الجهات الجغرافية المعمول بها كشرق وغرب، إلى ما بعدها كعقلية وذهنية وثقافة، إلى شكل من التباعد والتفارق الحضاري، وليس السياسي وحسب بين غرب وشرق.
الغرب المعنون منذ قرون بالدولة العصرية، دولة الحقوق والحريات المدنية والفكرية والسياسية، دولة الدستور العصري والمواطنة متجاوزاً حدود الإثنيات الدينية والقوميات الأهلية والقبليات السابقة، دولة حقوق الإنسان وكل إنسان فيها، حتى الوافد إليها، دولة حقوق الطفل وحتى الحيوان، في مقابل الشرق.. والشرق هذا غارق في مستنقع الاستبداد، الاستبداد متعدّد الفروع والغصون والجذور، والذي بني على تلال من الجماجم المتتالية منذ فجر التاريخ لليوم.
استبداد التاريخ بمحتواه الثقافي المتمترس خلف النصوص المقدسة، نصوص دينية، نصوص قومية، نصوص ماركسية، وكل نص يدّعي لليوم أنّه قُبلة الشرق ومنجاته، ويقيم حدّ القتل والنفي لنص خلافه، حتّى وإنّ هناك اختلاف تأويل على ذات النص. ولك أن تعد السبحة في كرتها: فالإسلام (شيعي وسني) ويقيمون مقتلة تاريخية لليوم منذ صفين، والأحزاب القومية، خاصة البعث منها، أقامت عداوات الدول فيما بينها، لدرجة إعدام وملاحقة بعثي العراق في سوريا، وبعثيي سوريا في العراق، ولم يكن حال الماركسيين بأفضل حال، لو قدّر لهم استلام السلطة، لفعلوا ما فعله ستالين في روسيا ذاتها، ولسان حالي يقول “الله يستر”.
الغرب الذي نتوق له، الغرب الذي يعتبر قبلة المثقفين والمتنورين من دول الشرق هذه، الغرب الذي استضاف ملايين المهجرين والنازحين من السوريين، وقبله من العراقيين والمغاربة والأفارقة.. هل ولد فجأة غرباً وولدنا شرقاً بالتكوين والجينات، فهل يجوز أن تبقى الصفة لازمة الموصوف أبداً مهما تغير الزمان؟
قبل قرون من اليوم، كان الغرب الغارق فيما أسموه ذاتهم عصر الظلمات، عصر القوة والإمبراطوريات والزحف المتبادل بعضهم على بعض، الغرب الغارق في مستنقع استبداداته، أيضاً، الدينية والسلطوية التي نعيشها اليوم، ومع اختلاف معايير الزمن والحقبة التاريخية الممتدة والمتغيرة تاريخياً لليوم، إلا أنّ معايير عامة تتشابه في تلك المرحلة للغرب مع الشرق اليوم.
تلك التي كان قد تناولها توماس هوبز في معيار واضح أسماه حينها بالفوضى الطبيعية، “حرب الكل ضد الكل”، واضعاً الأساس المعرفي لتجاوزها، والوصول لعقد اجتماعي عام حيث يؤثر الوصول له بالوعي المصلحي العام بعد الفوضى الطبيعية الناتجة عن حرب الكل ضد الكل، كما في حالتنا الراهنة، فحسبه ((الناس كلما أدركوا، عن وعي، النتائج السيئة المترتبة على حالة الفوضى والاضطراب، تمسكوا بالقانون، وتمسكوا بالنظام))، ليعيد جان جاك روسو بعده بقرن مقدمات الهوية العامة، أو الشخصية العمومية كمقدمة للعقد الاجتماعي الوطني، حين يتنازل الجميع عن مكتسباتهم السلطوية وتفوقهم الأيديولوجي والديني لصالح الشخصية العمومية هذه، والتي هي هوية الدولة، وبالضرورة عقدها الوطني بالتراضي، ذلك الذي تحقق بعد الثورة الفرنسية والتي امتدّت عقوداً من الحروب والمعارك، تمفصلت حول نقاط ثلاث:
فصل الدين عن الدولة، فصل العسكر عن السياسة، واستقلال القضاء والثقافة، وبالضرورة حرية الرأي والفكر والمعتقد وسواد القانون على الجميع.
وكلفة هذا التحقق كانت باهظة الأثمان من حروب ودماء ومقاصل استمرّت حوالي قرن من الزمن، إلى أن وصل الغرب اليوم لما صبوا إليه.
الشرق اليوم، ومنذ بدء ثورات الربيع العربي يغطّ في مستنقعات عدّة من الاستبداد والقهر، الشرق الأسير والمحكوم طوقاً بآلة الاستبداد متعدّدة الأجناس:
-استبداد سلطات العسكر القوموية، الوريث غير الشرعي لثورات التحرر العربي.
-استبداد الموروث الديني المستأثر بقوة النص، تأويلاً أو تنزيلاً لجهة خلاف غيرها.
-استبداد العرف والتقليد وثقافة المحو للذات الفردية، مقابل النحن القبلية أو الأسرية أو الطائفية أو الدينية.
-استبداد نزعات التفوّق الواهية للميليشيات والعصابات والأيديولوجيات.
-ويضاف عليها اليوم استبداد القوة التقنية المتمثلة بعصر العولمة والجيوبوليتيك الدولي القائم على تقاسم النفوذ من وعلينا، ويدير لعبة السياسة في الشرق بكل الأدوات الممكنة لتفتيته بعوامل الاستبداد ذاتها، من سلط عسكر وموروث ديني وميليشوي لإنهاء أي مشروع وطني قد ينمو في هذا الشرق.
الشرق المنكوب لليوم، لا بنكبة 1948 وفقط، بل بكل صنوف النكبة في الفكر والمعرفة، الشرق المنتكس لليوم لا بنكسة 1967 وفقط، بل بسلسلة من الهزائم المجتمعية المتتالية، الشرق المدمرة معظم مدنه، بدءاً من العراق، فدمار المدن السورية واحدة تلو الأخرى بالأمس، ليتلوه دمار بيروت الكبير اليوم، وكأنّ دمار المدن تسلية الوقت الحاضر، مجرد لعبة بيد ساسة الأمر الواقع وصانعي لعبة الحرب والقتل المتتالي الذي لم يتوقف منذ سنوات.
ثالوث الدين وسلطة العسكر وما بينهما من مشاريع أيديولوجية عسكرية دينية أو قومية، تأكل وتدمر كل ما كانت قد بدأته الشعوب قبل عقود بثورات التحرر العربي؛ وذات الثالوث الذي حكم الغرب سابقاً بذات العقلية، فهل يستفيق الشرق ومدنه المكلومة اليوم من سباتهم الطويل، من موتهم القبيح، هل يستفيق هذا الشرق واضعاً يده على جرحه بضرورة نفي معيقات تحققه كدولة عصرية؟ وهل تستعيد بيروت موقعها اليوم كعاصمة للثقافة والحريات التاريخية وتكسر تلك الاطواق التي امتدت على رقاب اللبنانيين أولاً، وتعاونت مع كل موروثات الاستبداد السياسي في المنطقة لفرض شرعية ولاية الفقيه وسلطة العسكر في موقعة موت كبرى طالت مدن الشرق هذه قاطبة.
“دكتور مانيت” سجين الباستيل في رواية قصة مدينتين، لتشارلز ديكنز، الرواية الأشهر التي أرّخت قصة الثورة الفرنسية وأحداثها بين مدينتي لندن وباريس، “دكتور مانيت” خلاصة القهر الفرنسي المر في سجنه الطويل كما خارجه، “مانيت” الذي امتهن مهنة الحذّاء في الباستيل، بقي لأعوام بعد خروجه منه، كلما ضاقت به الدنيا، دخل غرفته منفرداً وعاد يمارس عادته في صناعة الأحذية، صوت المطرقة على السندان كان سلوته عن قهره المضاعف، وكان الفرنسيون يشقّون طريق ثورتهم المتعثّرة لعقود، إلى أن رست واستقرّت، فكانت جمهورية الحريات والعدالة وشرعية القانون. وما أشبه اليوم بالأمس، وما أمر طعم القهر وعهر السياسة العلقم، فأكاد أسمع طرقات مطرقة “مانيت” ذاتها في أذني، وفي أذن كل حنايا الشرق ومدنه المكلومة، حيث القهر بكل صنوفه: اعتقال، تهجير، فجيعة أبناء وأخوة، فجيعة زوج وزوجة، فجيعة أسرة بكاملها، شتات لا ينتهي في كل دول العالم.
للتاريخ صيرورته ومساره التحرري وإن تأخرت نتاجاته، وما أشبه شرق اليوم بغرب ما قبل العصرية، فستحفر هذه السنون العجاف في صخرنا وجبالنا، في قلوبنا وذاكرتنا، في كتبنا وأقلامنا، فثورات الشرق بدأت ومهما تكالبت عليها قوى القضم والتنازع وآلة الحرب الهمجية بكل صنوفها وجبروتها المادي والتقني، كما الماضوي المفوت أيضاً، فهي مفصل قادم في العصر الحديث، كما كانت الثورة الفرنسية فجر عصر النهضة الأوروبية وقبلتها.
ليفانت – جمال الشوفي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!