الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • الزّراعة اللُّبنانيّة بِمعالم جديدة.. والسّبب تغيُّر المناخ

الزّراعة اللُّبنانيّة بِمعالم جديدة.. والسّبب تغيُّر المناخ
الزراعة اللبنانية

باتت زراعة الخس، التي لطالما مارسها المُزارع اللُّبناني إلياس معلوف، البالغ من العمر 54 عامًا من بلدة الدّامور، لِعقود من الزّمن مُجرّد مرحلة مُؤقّتة في تاريخ عمله الزّراعي. هذا ما أخبرنا إيّاه معلوف بحسرة كبيرة لحظة دخولنا حقله الزّراعي. فلم ترحم الظّروف المناخيّة القاسية حقل معلوف من تداعياتها الحادّة، لتحرمه من استكمال رحلته المهنيّة المليئة بالشغف والأمل، وتجبره على وضعها في عدّاد الذّكريات ليسردها قصصًا وروايات تبدأ منذ اليوم الأوّل له كمزارع ولا تنتهي في ذاكرته أو تغيب عن لسانه طوال ما قلبه ينبض بالحياة.

اصطحبنا إلياس معلوف، المُزارع، وهو اللّقب الأحبّ إلى قلبه، إلى حقله الكائن في بلدة الدّامور التي تقع على السّاحل الشّرفي لجبل لبنان، وبدأ يلقي على مسامعنا قصّته بغصّة وحرقة كبيرتيْن.

بصوتٍ مبحوح أشبه إلى حقل معلوف الذي أصابه الجفاف، أخبرنا أنّه قد نال نصيبه من أزمة التّغيُّر المناخي العالميّة، واضّطر إلى استبدال "مهنة العمر" كما أسماها، أي زراعة الخسّ، بزراعة البندورة التي اختارها رفيقةً له في الحقل للأيام المُتبقيّة من عمره.

رفض معلوف الاستسلام، ووضع يده مرّةً أُخرى في حقله الذي قرّر جعله "جنّةً" من البندورة وفق تعبيره. وبكلماته التي ملؤها الشوق والشغف لاستقبال موسم زراعي ناجح من البندورة، قال معلوف: "سوف أستقبل الواقع المناخي المُستجد بزارعة جديدة تتلاءم والتغيُّرات التي أفرزها، فزراعة البندورة تحتاج إلى درجة حرارة تتراوح بين 15 و30 درجة مئويّة وكميّة مياه أقل بكثير من تلك التي كانت تستنزفها زراعة الخس، وهذا تمامًا حال حقلي في ظلّ الواقع الجديد".

فلطالما اشتهرت منطقة الدّامور، حيثُ حقل معلوف، بزراعة الخس لعقود طويلة. سُهولها الساحليّة، خصوبة أراضيها، وحموضة تربتها التي تصل إلى 6.5 درجات، كلّها عوامل مساهمة في إنتاج مواسم زراعيّة مُزدهرة من الخس. هذا بالإضافة إلى كوْنها بيئة ملائمة مناخيًّا لهذه الزّراعة منذ مرحلة رمي البذور وحتّى مرحلة جني المحصول، إذ يسجل متوسطها السنوي من مياه الأمطار 834 ملم ومن الحرارة 20 درجة مئويّة.

إلّا أنّ أزمة التّغيُّر المناخي أدّت إلى تدنّي المتوسط السّنوي لمياه الأمطار في منطقة الدّامور إلى 350 ملم كما ارتفعت درجات الحرارة فيها لتبلغ 25 درجة مئويّة. ومن الجدير ذكره أنّ متوسط مياه الأمطار في لبنان سجل انحفاضًا ملحوظًا على أثر أزمة التّغيُّر المناخي، فبعدما كان يصل إلى 1500 ملم سنويًّا قبل عشر سنوات لم يتخطَّ 980 ملم في العام 2022.

أقرأ أيضاً: مباحثات يمنية في الأردن تمهّد لعملية تبادل أسرى

جلسنا ومعلوف في حقله المحروث بيديه المُنهكتيْن والمُتشققتيْن من عناء الزّرع والرّي والقطف، وأخبرنا أنّه ينتظر أوّل أيّام فصل الصّيف بحماسٍ كبيرٍ، ليرمي بذور البندورة التي حضّرها منذ أشهر عديدة، لينشغل لأيام بريّها والاعتناء بها، وليفرح بها في يوم الحصاد الكبير. هكذا بدا المشهد في ذهن معلوف، مشهد يحمل في طيّاته تناقض كبير، غصّة عميقة لا تفارقه عند استذكاره زراعة الخس التي خسرها، وشغف كبير باستقبال موسم زراعي حافل عند حديثه عن زراعته الجديدة.

تجوّلنا ومعلوف في حقله المُؤلّف من ثلاث أراضٍ: الأُولى بمساحة 3400 م2، الثّانية بمساحة 9500 م2، والثّالثة بمساحة 11000 م2. وعلى الرّغم من كون المباني المحيطة من حقول معلوف الزراعيّة عصريّة نسبيًّا، فأراضي معلوف توازي بل تفوق بحداثتها المباني المجاورة نتيجة الحسّ الرّاقي والذّوق الرّفيع اللذين يعتمدهما معلوف في عمله الزراعي، رغم كوْن ملابسه مُلطّخة بتراب مُبلّل تارةً وبعرق جبين تارةً أُخرى.

ورث معلوف حقوله الزراعيّة عن والديْه الذين سبقوه بالعمل الزراعي، وأخبرنا بصوت يملؤه الدّفء والقوة في آنٍ واحدٍ أنّه مُتعصّب لأرضه إلى حدّ كوْنها الأُولى في وصيّته وضمن الموروثات التي سيُقدّمها لأبنائه الثّلاثة لتخليد صفته كمزارع حتّى بعد وفاته.

أزمة المناخ وقلّة المياه تفاقمان معاناة المزارعين اللُّبنانيّين

تُعدّ حالة معلوف واحدة من سلسلة المعاناة التي عرفها المزارعون اللُّبنانيّون عقب اندلاع أزمة التّغيُّر المناخي التي أدّت إلى ارتفاع درجات الحرارة التي سبّبت بدورها شحًّا في مياه الأمطار وبالتّالي جفافًا حادًّا قضى على أنواع كاملة من الزّراعات التي بات من الصّعب الاستمرار بها نظرًا لكميّات المياه الكبيرة التي تحتاجها كالخس، الخيار، النعنع، البقدونس، وغيرها.

وفي حديثنا مع معلوف، قال أنّه لم يكترث يومًا إلى مسألة ري حقوله قبل أزمة تغير المناخ على الرّغم من أنّ نبتة الخس تعشق المياه كي تكبر وتنمو، إلّا أنّ مناخ لبنان عامّةً وبلدة الدّامور خصوصًا كان يسمح بسقوط كميّات وفيرة من الأمطار التي تستخدم كمياه لري المزروعات.

اقرأ أيضاً: مسؤول أوروبي: سنسرع وتيرة تسليم شحنات الأسلحة لأوكرانيا

ونظرًا لكوْن معلوف واحدًا من المزارعين اللُّبنانيّين العريقين في المجال ومن أهل القطاع القدامى، كما أظهرت ملامح وجهه، حركات جسده، ونبرة صوته التي روت جميعها قصة تعلُّق بالأرض، فقد خسرت الزّراعة اللُّبنانيّة المحاصيل التي اعتاد معلوف على جنيها، إسوةً بسواها من المحاصيل الأُخرى التي تنتجها زراعات معيّنة لم تعد صالحة في لبنان في ظلّ المناخ الجديد. إذ فقدت الزّراعة اللُّبنانيّة عددًا لا يُستهان به من الزّراعات التّنافسيّة التي تميّزت بها لسنوات وكانت مصدرًا تصديريًّا هامًّا على المستوى الزراعي بالدّرجة الأُولى وعلى الاقتصاد بصورة عامّة.

ليس معلوف وحده يقلب صفحة الزّراعة التي احترفها طوال القرن الأوّل من عمره، بل تكثر حالات المزارعين الذين راحوا يبحثون عن بدائل وحلول لزراعاتهم البعليّة التي لم تعد صالحة في ظلّ أزمة التغيُّر المناخي. ويقول سامي كايد، المُدير العام لأكاديميّة البيئة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، في هذا الصّدد: "أنشأ مزارعو قرى وبلدات شمال لبنان بركًا اصطناعيّةً لجمع مياه الأمطار خلال الشّتاء بغرض استخدامها في ري المزروعات". إلّا أنّه لا يمكن إغفال حالات المزارعين اليائسين الذين خسروا مواسم زراعيّة كاملة ومهنًا احترفوها لعقود طويلة وقرّروا الانتقال من العمل الزّراعي نحو أعمال صناعيّة وتجاريّة وخدماتيّة بحسب لكايد.

للقطاع الزّراعي اللُّبناني حصّة من الأزمة الاقتصاديّة

وكأن شبح الأزمات لازم معلوف من كلّ النواحي، فقال بحرقة: "الآن خسرت زراعة الخس ولا يمكنني العودة إليها قطّ بسبب أزمة المناخ، إلّا أنّني واجهت معاناة من نوع آخر أثناء صراعي هذه الأزمة قبل اتخاذي قرار استبدالها بزراعة البندورة، وهي معاناة غلاء سعر المياه التي حالت دون قدرتي على ري موسم الخس الذي انتهى بالتلف والرمي".

يقترض معلوف المال كي يشتري المياه مرّتيْن في الأُسبوع بكلفة ماليّة توازي المليون ليرة لبنانيّة بهدف تأمين مياه الرّي لحقله. فمع اندلاع الأزمة الاقتصاديّة في أيلول 2019، ارتفعت أسعار خدمات توزيع المياه وباتت حكرًا على الميسورين فقط. إذ تخطّى سعر نقلة المياه الخمسمائة ألف ليرة لبنانيّة في حين لم يكن يتعدَّى المئة ألف ليرة لبنانيّة قبل الأزمة الاقتصاديّة.

وأضاف معلوف بصوتٍ خفيف وبسمةٍ خجولة: "وُلدت مزارعًا، والمزارع لا يطمح أن يصبح غنيًّا، يكفيه تحقيق الاكتفاء الذّاتي، لكنني عجزت عن تأمين مدخولًا يكفيني لقاء سعر مياه لري مزروعاتي".

وفي ظلّ الأزمة الاقتصاديّة النّاجمة عن ارتفاع سعر صرف الدّولار الأميركي أمام اللّيرة اللُّبنانيّة، وتعذُّر لبنان عن استيراد حاجاته الغذائيّة التي سجلت أسعارها معدّلات مرتفعة، فالحلّ يكمن في تنشيط الإنتاج المحلّي. فالقطاع الزّراعي قادر على وضع الاقتصاد على مسار التّنمية الشّاملة والمُستدامة وتحويل الأزمة الاقتصاديّة إلى فرصة إنتاجيّة يُمكن بموجبها بلوغ نهوض زراعي مُرفق بنموّ اقتصادي، إلّا أنّ غياب الزّراعة عن خطط واستراتيجيّات الحكومة اللُّبنانيّة يجعلها قطاعًا مُستبعدًا من قبل أهله في ظلّ غياب التّنظيم والتّمويل اللّازميْن لجعلها مُنقذًا إنتاجيًّا خلال الأزمة.

وفي السّياق نفسه، قال كايد: "لا أثر للزّراعة في الخطّة الإنقاذيّة، ولا تعويضات للمزارعين لقاء الخسائر التي تكبّدوها جرّاء أزمة المناخ. يتحدثون عن الاقتصاد المنتج، من سينفذ الخطّة الإنتاجيّة؟ وبأيّة أموال في بلدٍ مفلسٍ يرفض أن يستثمر رأس المال الموجود في المصارف لصالح قطاعه الزّراعي؟".

ويضيف كايد: " يمكن للزّراعة أن تكون مصدرًا مُستداماً للدّخل في لبنان عبر تطبيق مجموعة تدابير آيلة إلى التّكيُّف والتّأقلم مع أزمة تغيُّر المناخ. ومن ضمن هذه التدابير: حوكمة المشكلات في كافّة القطاعات اللُّبنانيّة، وضع الاستراتيجيات والسياسات العلميّة وتنفيذها، تفعيل برامج بناء القدرات ونقل التكنولوجيا، نشر الخدمات الإرشادية المستهدفة، وبناء قدرات ومهارات المزارعين وسائر أفراد المجتمع بموجب مجموعة متنوعة من الأنشطة غير الزراعية المدرة للدخل.

ليفانت - آمنة يونس

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!