الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحرية أولاً، السويداء وزيف الديموقراطية
جمال الشوفي

إنّ حياة بلا حرية لا تليق بالإنسان، وما ارتباط فكرة الحرية بالإنسان إلا عودة إلى وجوده الأول، مضغته الأولى، براءته الأولى، طبيعته وسجيّته المفطورة على الحب والخير والسلام، تلك التي نطلقها بسهولة ويسر على طفل يمرح ويلعب يبكي ويضحك، عاشقاً الحياة دون قيود، فمتى تكون الحرية وفق خط الضرورات والواقع؟، وأين هي الديموقراطية بين هذا وذاك؟. 


في الأيام القليلة الماضية، عاشت السويداء مشهدين متناقضين، قد يروق للبعض ربطهما بالديموقراطية كتجسيد فعلي للحرية فلسفة ومعنى عميق، فهل كانت هكذا فعلاً؟


في المشهد الأول، وبعد سلسلة من الاعتصامات السلمية منذ بدء العام تحت عنوان (بدنا نعيش)، مروراً باعتصامات الأحد للاحتجاج على حرائق الزرع وأرزاق الناس، التي تشير كل الأدلة على أنّها مفتعلة، والتي تنامت لموجة من التظاهرات الشبابية العامة لأربعة أيام متتالية، زاوجت بين المطالب السياسية بالتغيير السياسي سلطوياً مع المطالب المتعلقة بالوضع المعيشي والاقتصادي، وذلك بعد أن أفلست السلطة القائمة في إحداث أي تغيير في الوضع الاقتصادي والأمني للمحافظة والقطر عامة، بل زادت الأوضاع تفاقماً بانخفاض كبير بأسعار صرف الدولار وارتفاع جنوني في الأسعار، ولتستمر في أسبوعها الثاني، ولكن.. ولكن هذه إعلان الاستدراك المبيت. 


شعارات وهتافات الشباب، الذي عاش كل صنوف انسداد الأفق أمام حياته ومستقبله، أتت تحت عناوين عدّة أهمها: #بدنا نعيش بكرامة و#نحنا بدنا سورية، #بدنا المعتقلين #سبت المعتقلين، كشعارات واضحة تدلل على ارتباط الجانبين الاقتصادي والسياسي، وارتباط وثيق بين الحرية وشكل تمثيلها السياسي، والتي هي بالتعريف ديموقراطية الحكم وتداول السلطة سلمياً، فمطلب التغيير السياسي للسلطة القائمة والتي أتى عبر شعارات شباب التظاهر هو مطلب ديموقراطي بالعرف السياسي للدولة الحديثة، كما حق التظاهر والاعتصام والمطالبة بالتغيير حق سياسي يجب أن يكفله الدستور ليس نصيّاً وحسب، بل قانونياً وحياتياً.


في مشهد آخر، دعت القيادات البعثيّة في المحافظة لمسيرة، أو وقفة تضامنية، مترافقة مع يوم التظاهر الرابع، والتي أتت في صيغتها الأساسية على لسان إحدى قيادات أفرع اتحاد الطلبة بصيغة الوعيد والتهديد وتحمّل المسؤولية لمن يتخلّى من الموظفين والطلاب عن حضورها، مترافقة مع انتشار العديد من التسجيلات الصوتيّة والرسائل النصيّة عبر وسائل التواصل التي تحرّض على المتظاهرين الشباب، وعلى تخوينهم واتهامهم بالارتباطات الخارجية كما هي العادة المألوفة في التهم الجزافية مسبقة الصنع، في موقف تحريضي على المتظاهرين، يمثّل تماماً خرقاً للقانون ونصوص الدستور المعمول فيه للآن.


يبدو أنّ المشهد لم يكتمل أو يتوقّف عند هذا، فقد توّجت بعودة مشاهد الاعتقال والاعتداء على المتظاهرين، وذلك يوم الاثنين 15/6، وكأنّ قيادات حزب البعث والأجهزة الأمنية يصرّون عن سبق نية وعمد لسلوك ذات المنهج الصلف في التعامل مع حركة الناس الاحتجاجيّة، لتبرز بوضوح زيف ادعاءات الديموقراطية والحرية التي نادوا بها عقوداً مرة أخرى في شارع السويداء، لتصبح محاولة تصدير المشهد في السويداء على أنّ هناك شارعين زيف متعمد واستجرار للخراب وذات النهج الأمني الذي أودى بسورية قاطبة للكارثة، هو ذاته الفرق الدقيق بين الحرية، كفضاء عام تتجسد فيه الديموقراطية، وبين الاستبداد وزيف الديموقراطية والشعارات الجوفاء، فمن حيث المعطيات الأساسية التي جرت تتبدّى عدة مؤشرات: 


– لم يكن حضور المسيرة بحشود كبيرة كما كان متوقعاً، ما يدلل عن فقدان الثقة العامة بالسلطة القائمة، فمعظم الموظفين الذين مازالوا متمسكين براتبهم القليل وجدوها فرصة ليهربوا من دوامهم بحجة المسيرة.


– بينما كانت شعارات المظاهرات تنادي بالحرية والتغيير السياسي وربطه كضرورة أولى للتغير في المستوى المعاشي والاقتصادي، بينما لم تمتلك المسيرات أي شعار سوى تكريس للأزمة الحالية سياسياً واقتصادياً ومالياً.


– على الرغم من عدم التعرّض للمظاهرات أمنياً بداية، لكن تم تهديد العديد من الفاعلين بالحقل السياسي المعارض علناً وسراً، مع تسريب وجود قائمة بالاعتقالات والاستهداف، ليتم المشهد اليوم بالمزيد من الاعتقالات والاعتداءات والانتهاكات.

– مخالفة القوانين واللوائح الدستورية مباحة لشريحة متنفذة بالسلطة وتتمثل لأوامرها، بينما حق التظاهر وسلمية الاعتصامات مصدر تخوين واتهام وملاحقة أمنية دائمة.


ليست المرة الأولى التي يتكشف بها زيف الصورة المقدمة عن الديموقراطية الشكلية وشعاراتها المتتالية بالوطن وحب الوطن، فقد كانت عنواناً بارزاً لدمار سورية وتهجير شعبها بحجة الإرهاب، لكنها اليوم تتبدّى علنياً في وسط الأقليات التي طالما تمسكوا بحمايتها والديموقراطية زيفاً.


الحرية كمناط للأخلاق وسعادة الإنسان ومبعث على تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، حين تتجسد سياسياً بنظام ديموقراطي منتخب بحرية، يتنافى كلية مع ذاك النموذج السياسي الاستبدادي المتمثّل بمركزية السلطة وقراراتها الأمنية والسياسية، بحيث تتاح حرية القول والتهكم لمن يتبعونها، وتحجب عن خلافهم حتى مجرد حق الكلمة والتعبير. هو ذاته الفرق المهم والحاد في انتقال وتطور المجتمعات من حيز ما قبل دولة ولائية سلطانية ديكتاتورية، إلى مصافي الدولة والحقوق والدستورية، التي تعيد للمواطن الفرد حقه وأهليته القانونية والدستورية، وليس هذا وحسب بل تعيده لانسجامه ومكنونه الذاتي مع قناعاته وتصوراته وأحلامه، دون رقيب أو تهديد ووعيد، سوى مسؤوليته الأخلاقية والوطنية التي جسدها سلوك التظاهر السلمي السوري، وفي السويداء اليوم، بحيث تفتح أمامه أبواب السعادة والإبداع والتطور، بينما تلك النظم الغارقة في الاستبداد ونزعة الاستحواذ الكلي، مزينة وجودها السياسي برعيل من المصفقين والمنتفعين، تقوم على الفساد والوصايات وفتح بوابات الوساطات والانتفاع كرصيد فاعل لها في حركة المجتمع، وهو ذاته الفرق بين شارعين محتدمين بسورية منذ 2011، لليوم، شارع يطرح الحرية شعاراً وشارع يطرح الاستبداد ملاذاً، وتضيع الديموقراطية وكل القيم العصرية في خضمها.


كلنا بدنا سورية، تعني العيش الكريم، تعني المساواة أمام القانون، تعني حرية التعبير، وتعني استرداد الدولة من سلطة متفردة لهذا الحزب أو ذاك.

كلنا بدنا سورية؛ تعني تحقيق المناخ العام للحرية بصفتها الفلسفية والوجودية، حين تعبّر عن الإنسان، لتستوي وتستقيم في نظام سياسي قابل للتداول انتخابياً، بعيداً عن الأيدي الأمنية ومؤسسات السلطة العسكرية وتجيير القضاء والأحكام القانونية لمصلحتها، مستخفة بباقي شرائح المجتمع على اعتبارهم رعايا لا مواطنين أحرار وكرام. 

كلنا بدنا سورية؛ تعني العدالة ومستقبل البلد بشبابها وكوادرها المقهورة والمسدودة أمامها كل فرص الحياة إلا أن تصفق وتهلل أو تذل وتهان…

في الحرية أنت سيد ذاتك، وشباب السويداء اليوم، كما كل الشباب السوري أسياد ذواتهم، هم من صنعوا الحدث السوري بكل عظمته وإن تأخرت نتائجه السياسية لليوم، هم مستقبل هذا البلد الذي نُكب بشرياً واقتصادياً وحياتياً، هم مبعث الأمل والروح في قدرة السوريين على استعادة قرارتهم السياسية بعد أن أفقدتها آلة الحرب والموازيين الدولية حضورها الحضاري وباتت محطة نزاع عالمي ودولي كبير.


في الأصل كانت القصة قصة بلد، وستبقى هذه البلد مادام شبابها وشاباتها قناديل الزيت التي تضيء عتمتها، لم تكلّ ولم تملّ يوماً من الربط بين الديموقراطية والعيش الكريم والحقوق والواجبات وبين تعبيرات الحرية المعلنة، ففي المبدأ كان الإنسان، وكان الإنسان حراً قبل أيّ نظام سياسي، فكلّ النظم زائلة اليوم أو غداً، وما شكّل شباب السويداء اليوم سوى عودة الروح لجسد سورية التي أنهكته نظم الاستبداد والتسلط وزيف الشعارات وطوال السنين من الحروب، ليبقى الشباب، لليوم، هم الفارق والقادر على تغيير مسار الدفة هذه، فلا شكلية الديموقراطية ولازيفها، ولا تغيير في حكومة تنفيذية، ولا دعوات الحوار الزائفة المبطنة بتهديد السلاح والقتل والاعتقال والاقتتال الداخلي، مع بقاء ذات النموذج السلطوي السياسي، قادرة على إيقاف سيل الحرية النقي هذا. لتبقى الحرية أولاً هدفاً ومحتوى وحضوراً وجودياً قائماً ما دام الإنسان معرفاً بذاته الطبيعية والحقوقية ومسؤوليته تجاهها. 


 – جمال الشوفي 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!