الوضع المظلم
الأربعاء ٠٦ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
يوم للعدالة: عطشان يا بلد
جمال الشوفي

عطشان يا بلد، عنوان سوري عريض وبلا حدود، يستنزف كل قوى هذا الجسد، وقد بات منهكاً على آخره، فاليوم كلّ السوريين معتقلون، سواء في زنازين العتمة، أو بين جدران حارات مدنهم، وما زال الجميع ينتظر يوم العدالة. عطشان وقمل الليل، يمتصّ آخر رمق في خلايا الجسد الهزيل، عدّها سلوة الوقت، وخواء البطن، غنائية حزينة أو سيمفونيّة حرية تعزفها الأمعاء الخاوية، فيطرب قلب المعتقل أنّه ما زال حياً.


عطشان، وتكاد خلايا أجسادنا تجف وتكتوي بالرمق الأخير من الحرقة والغصة والقهر، وجيل من الشباب عطشان للشعور بالأمان، للإحساس بمعنى الوجود اليومي، لانتفاء خيارات اليوم والمستقبل بين ثلاث: قاتل أو مقتول، مُعتقل أو سجّان، حاجة وذل أو تشرد ولجوء، جيل بات مشرداً متنازعاً بين هجرة وانغلاق وانسداد أفق وانعدام حلول، وأبداً لم يكن الجوع والعطش الفيزيائي وحده ما يرهقه، بل ذلك العطش الكاوي للعدالة والحرية، لإنصاف القانون، للتعبير للكلمة، لإثبات الوجود والإمكانية، عطشان يا بلد، وعطشي كما عطش الجسد للماء، تكاد حرقة الملح المتراكم تقرّح كل مساماته. يوم للعدالة


الاعتقال، وصور آلاف السوريين المعاد بثّها من جديد، بموجب تسريبات “قيصر”، الاعتقال وصور الذاكرة المليئة عن آخرها ألماً، وحبل الوريد المتصل بسؤال الوجع المتكرر، سؤال الموت المعلن في سورية: كم سوري قضى في هذه الكارثة، وكم بقي منّا؟ سؤال لم تكتمل إجابته بعد، ما لم تتحقق العدالة، ويعرف مصير المعتقلين والمختفين قسراً، وتحقيق عدالة القانون، فلا يمكن لأحد، فيلسوف، عالم نفسي، أو باحث في الماورائيات، يستطيع أن يقرر أيّهما أقسى، لحظة انتظار قلب أمّ أو طفل لمعرفة مصير مفقودهم المعتقل، أم صوت المعتقل ذاته وهو يردد عطشان يا بلد؟.


تاريخ الاعتقال السياسي لا يقف عند حدود حجز الحرية، وكمّ الأفواه عن الكلام، وفقط، بل هو تاريخ التعذيب الجسدي وإخضاع النفس البشرية عنوة لرغبة عصابية لدى سجّانه، أداة تنفيذ عهر السلطة القمعية، والتي تنفي حوار الكلمة والقدرة على الإقناع، وفق منطق العقل، وتعود لبدائية القتل، ونفي الكلمة بحجز الأجساد خلف عتمة أسوارها، تصل لدرجة التخلص منه، ومن أعباء حضوره وكلمته. فحيث لم تكن للفضائح المدوية الخارجة من سجن أبو غريب في العراق، سوى دلالات كبرى على مدى “اللاآدمية” التي يمارسها السجانون بحق أسرى الحرية في السجون، من طرق تعذيب إجرامية تنتهك المواثيق الدولية لحرية الانسان وصفاته الحرة، ولم تكن الأولى في تاريخ البشر، فقد أوجد ستالين منفى سيبيريا لكل خصومه السياسيين، واشتهرت معتقلات النظم المعروفة ب”النظم الاشتراكية”. 


شمولية السلطة والحكم، بالاجتهاد بفنون التعذيب الجسدي والنفسي للمعتقلين، حتى يصبحوا عبرة لغيرهم من المدنيين، لا يجرؤون بعدها على الكلام أو التعبير عن رأيهم، لتصبح أيّة نزعة حرة أو نقد يوجّه للسلطة الحاكمة، تكلف صاحبها الاعتقال لسنين طوال في المعتقلات.


في سوريا، تاريخ الاعتقال السياسي طويل طول عمر سلطة البعث، القائمة في الحكم لليوم، زاد عدد سنوات العديد من المعتقلين خلالها، 30 عاماً، فوهن الشعور الوطني والعداء للاشتراكية تهم جاهزة لكل رافضي حكم البعث وعسكرة الحياة السياسية في سورية؛ ولم تزل ذكرى سجن تدمر والمجزرة الجماعية التي أقامها رفعت الأسد بها، دليل على القصور الإنساني لأصحاب السلطة ولغة البطش والقتل، لا وبل قصور عقلي ينم عن مرض نفسي عضال، لا يستطيع مجابهة وجدال الرأي برأي مختلف، ليشكل الاعتداء الجسدي والنفسي نموذجاً فاضحاً لانتهاكات أبسط الحقوق الآدمية، خاصة وأنّ المعتقل أعزل مسلوب لأبسط حقوق الدفاع عن نفسه.


في السنوات التسع الماضية، اتسعت دائرة الاعتقال التعسفي، حتى وصلت درجة الاعتقال الجماعي لكل من يخرج لمظاهرة أو اعتصام، لكل من يُكتب به تقرير أنّه معارض، لكل من يحمل علبة دواء أو رغيف خبز لمدن الحصار، لكل من يفكر بينه وبين نفسه بكلمة حرية، وحقيقة يدهشك لماذا تخاف السلطة من كلمة حرية أو عدالة، وهي من ترفعها شعاراً لحزبها، قائد الدولة والمجتمع.


منذ اعتقال أطفال درعا، قبيل انطلاق الثورة السورية، وصولاً لاعتقال شباب المظاهرات السلمية، في مدينة السويداء، الأحد عشر، بالأمس، وملف الاعتقال السوري هو الملف الأقسى والأصعب علاجاً، بل ويكاد يكون مفتاح الحل السياسي في المسألة السورية عامة. وما علاج ملف الاعتقال السوري للعلن، سوى الخطوة الأولى التي لابد منها، لإنهاء سنوات الكارثة هذه، والبدء بمرحلة سياسية جديدة، باتت تهم جميع السوريين دون تصنيف معارض أو موالي، وذلك حيث إنّ: 


-الكشف عن مصير المعتقلين، والمغيبين قسراً، وتبريد قلوب آلاف الآلاف من السوريين، المنتظرين خبر مصيرهم، تأكيداً أو نفياً، خطوة باتجاه العدالة والسلام والتسامح، هذا إذا ما كانت السلطة جادة بضمان مستقبل البقية من السوريين وأبنائهم، بدل زجّهم في معادلة الموت، ذاتها، قاتلاً أو مقتولاً.


-تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن هذا الملف، أمنياً وسياسياً، وفق قواعد قانونية ودستورية تحقق مبدأ المحاسبة. وحيث لا يمكن فتح هذا الملف إلا بإقرار السلطة السياسية والأمنية، بضرورة التغيير في سلوكها الأمني والسياسي، بعدما أثبتت السنوات التسع الماضية فشل، بل نكبة، ما قدمته تلك الحلول التي حلّت بكامل السوريين.

-الإقرار الواقعي بأنّ لا حلّ للكارثة السورية، اقتصادياً ومالياً وعمرانياً، يتلافى عقوبات قانون قيصر المقرّ من الكونغرس الأمريكي، بداية هذا العام، والموضوع موضع التنفيذ، منذ منتصف هذا الشهر، وهو ما بدأت ملامح تفعيله تظهر على الاقتصاد المحلي المنهار سلفاً، بزيادة باهظة بالأسعار، بلغت أضعاف الأضعاف، وانهيار العملة المحلية بشكل متسارع؛ هو الإقرار بأنّ لا حل سوري إلا بحل سياسي، بوابته العدالة وإنصاف المعتقلين وذويهم، فصورهم ال55 ألفاً، المسربة منذ العام 2013، وما شكلته من فضيحة تهزّ أركان الإنسانية جمعاء، كانت مادة قانون قيصر ذاته، ليصبح تطبيق القرار 2254/2015 ضرورة اللحظة الراهنة لجميع السوريين.


-كل أساليب المماطلة، والتلاعب بهذا الملف، من لقاءات جنيف/2 عام 2014، لليوم، لم تستطع أن تقدّم للسوريين، خاصة الموالين منهم قبل المعارضين، طمأنينة واحدة على مستقبل سورية بشبابها وخبراتها، وواقع اليوم يقول بوضوح “هذا ما جنيته على نفسي وما جنى علي أحد”، فاستسهال القتل والدمار والتهجير والاستعانة بكل القوى الإقليمية والدولية للبقاء في السلطة، كان ذاته المستنقع الذي أغرق السوريين، لليوم، في كل هذا الوبال، ولا مخرج منه ما دامت ذات العقلية الأمنية هي التي تتحكم بمصير هذا البلد ومستقبل شبابه وحياتهم. في فيزيولوجيا العطش، تضمر الخلايا وتجف، تفقد شهية الحركة والحياة رويداً رويداً، تنتابك موجات من الصمت، من السهو والشعور بالامتهان، فهل يمكن اليوم العمل على تلافي كل مصادر العطش الذي نعيش، ويقرّر السوريون بإرادتهم الحرة ضرورة تحقيق الانتقال السياسي، والتغيير في بنية نظامهم، قبل أن تكمل دوائر السياسية الدولية مفاوضاتها على طرق الحل السوري، والذي ستكون نتيجته ذاتها بتحقيق 2254/2015، اليوم أو غداً، مع فارق وحيد، هو أنّ السوريين هم من قرروا تغير سلطتهم السياسية والأمنية، التي أدخلت كل السوريين في ثقب أسود يلتهم الجميع، هو يوم للعدالة، لابدّ منه، اليوم قبل الغد، وإلا سيصبح العطش عنواناً عاماً.


ليفانت – جمال الشوفي 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!