-
لا تدعموا اليمن إلا بعد إصلاح المؤسسات الرقابية والقضائية
أصبح من الواضح لكل من يتابع الشأن اليمني بأن تحقيق السلام بشكل عادل ومستدام لا يمكن أن يتم بمعزل عن إصلاح مؤسسات الدولة، بالذات الأجهزة الرقابية لمكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية وتثبيت أسس المواطنة المتساوية والحكم الرشيد.
وذلك لأنه وبالرغم من الوضع المأساوي الذي يعيشه السكان اليوم، حيث يحتاج أكثر من 70% من الشعب (على الأقل 17 مليون إنسان معظمهم من النساء والأطفال) إلى مساعدات إنسانية طارئة، إلا أن دعم اليمن سواء من خلال المعونات الإنسانية أم الدعم المباشر لأجهزة الدولة لا يجب أن يتم إلا بعد إصلاح المؤسسات الرقابية والقضائية، وفرض إصلاحات مؤسسية على أجهزة الدولة، خاصة المالية والقانونية. فهذه الإجراءات لن تسهم في تحقيق الاستفادة القصوى من موارد الدولة المحلية والمساعدات فحسب، بل إنها وكما أشارت إليه خارطة الطريق النسوية للسلام المقدمة من مبادرة مسار السلام، تَعتبر الحوكمة وإصلاح مؤسسات الدولة في المرحلة الحالية وقُدماً هي حتمية للوصول إلى سلام مستدام؛ لأنها ستشكل تمثيلاً حقيقياً لمصلحة الشعب بكافة شرائحه.
ففي السبعة أعوام الماضية، تبرع المجتمع الدولي بأكثر من 20 مليار دولار بشكل مساعدات إنسانية ومع ذلك معاناة الشعب اليمني في تدهور مستمر! وما يزال المجتمع الدولي مهتماً ولو نسبياً بدعم اليمن من خلال عدة لقاءات لمجموعة أصدقاء اليمن ومؤتمر المانحين، كان آخرها في 16 مارس 2022، حيث تم التعهد بـ1,3 مليار دولار بهدف التخفيف من الكارثة الإنسانية في اليمن.
ولكن حتى في إطار المساعدات الإنسانية، تبرز وجهتا نظر مختلفتان في هذا الشأن، الأولى: من وجهة نظر المؤسسات اليمنية التي تشكو من أن المانحين لم يفوا بالتزاماتهم، بالتالي تجد الحكومة اليمنية نفسها أمام مسؤولية لا تستطيع الالتزام بها مادياً، والثانية: هي جهة المانحين الذين يشكون من أن الحكومة اليمنية تفتقر إلى أبسط مقومات الكفاءة للاستفادة المثلى من مساعداتهم، وبالتالي عليها أن تُنشئ أجهزة لتسريع استيعاب مساعدات المانحين.
وهذا ما دفع بعض المنظمات الإنسانية للعمل مباشرة على الأرض في توزيع المساعدات وغيرها من المشاريع الإغاثية. لكن حتى هذه المشاريع لا توجد رقابة حقيقية عليها، خاصة أنه في ظل النزاع المسلح لا تستطيع المنظمات الدولية أن تأتي بنفسها للرقابة على الأرض فتقوم بذلك من خلال ممثلين لها بالإنابة، سواء من منظمات المجتمع المدني اليمنية أم من الخبراء المحليين.
أما فيما يخصّ المؤسسات الحكومية، نرى اليوم بعض الإجراءات المتخذة من المسؤولين، بالذات رئاسة الدولة، بتغيير بعض الوزراء تحت مسمى تعديل وزاري لكنها لا تعد دليلاً على أن التعيين الجديد أو التغيير نتيجة إخلال بالعمل ومخالفة القانون؛ لأن القرار لم يصحبه أو يسبقه أي إجراء قانوني تجاه الوزير الذي تمت إقالته، فقد تكون احتمالية أن القرار تعسفي أو أن هذه التغيير السياسي يأتي على خلفية اتفاق سياسي للقيادة العليا لإيجاد بيئة عمل توافقية، بحسب نظام المحاصصة السياسية الذي برز وتسيّد هذه المرحلة.
لذلك نحن بحاجة لمعايير واضحة للترشيحات وإجراءات واضحة وصحيحة قانوناً في مواجهة المسؤولين المخلين بواجباتهم وتصرفاتهم التي تخرج عن القانون في مؤسسات الدولة؛ أي من يثبت بحقهم اتهامات بالفساد أياً كان نوعه أو شكله، يتم إحالتهم للجهات القضائية المختصة قانوناً. حيث يجب ألا تقتصر المساءلة على إقالة شاغلي الوظائف العليا من السلطة التنفيذية، بل يجب أن تمتد إلى استرداد الأموال المتحصل عليها بطريقة غير مشروعة، وإن تعذرت المحاكمة نتيجة للوضع الراهن (الحرب) يمكن أن يُكتفى بـ"التصالح" المتمثل في استرداد الأموال المنهوبة -مؤقتاً- مع اتخاذ بعض الإجراءات كمنع السفر للخارج وحلول أخرى في حالة رفض الفاسدين للتصالح أو الخضوع للمساءلة القانونية.
أثبتت التجربة أن وجود أجهزة رقابية قوية وأنظمة مكافحة فساد أمر حتمي لإنجاح العملية السياسية وإيقاف التدهور الاقتصادي في وقت النزاعات المسلحة، ولكن أيضاً في وقت السلم. فقد رأينا على سبيل المثال تجربة تنزانيا وغيرها الناجحة في مكافحة الفساد وتخفيف الاحتقان الشعبي.
ففي حين تشكل المساءلة القانونية تحدٍ هام للقيادة السياسية في الوقت الراهن بسبب تعطيل دور القضاء بشكله الكامل والجزئي وتأخر عملية إصلاح المنظومة القضائية حتى الآن رغم المطالبات المتعددة والمستمرة، إلا أن هناك مؤسسات أخرى من شأنها أن تساعد وتسرع في تثبيت الحكم الرشيد وسيادة القانون في هذه المرحلة -في ظل هشاشة السلطة القضائية وخضوعها للتأثيرات السياسية- وتماشياً مع إجراءات بناء الثقة التي تدعم المشاورات السياسية والمرحلة الانتقالية بعد توقيع اتفاق سلام.
ومن هذه الإجراءات ضرورة إعادة تشكيل الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة انطلاقاً من الأولويات الوطنية نحو تحقيق الحكم الرشيد، حيث إن مكافحة الفساد لا تتمثل في إصلاح الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد كهيئة مستقلة فقط، بل أيضاً الهيئة العليا للرقابة على المناقصات والمزايدات والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، والسلطة القضائية التي خلالها يتم تفعيل وتدعيم دور نيابة الأموال العامة ورفع كفاءتها. كما يجب أن تبدأ هذه الإصلاحات بإصدار قرارات بتعيينات جديدة لشخصيات ذات كفاءة وخبرة ونزاهة في هذه الجهات المسؤولة، في مقدمتها المسؤولون عنها.
يجب أن يتم التعامل مع دور الأجهزة الرقابية بجدية وليس كما حدث في الماضي مثلاً من خلال تجربة تطبيق قانون إقرار براءة الذمة المالية رقم (30) لعام 2006 من قبل الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد والتي لم تكن ناجحة ولم نجد أو نطلع إعلامياً عن تقرير بهذا الشأن. كذلك تجربة الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة في محافظات سلطة الشرعية لم يتم إحالة ملفات الفساد للنائب العام للنظر فيها. هذا وبالإضافة إلى ضرورة دعم هذه الجهات وإعطائها صلاحيات وتوفير الحماية لها حتى لا يتكرر ما كان يحدث في السابق، فعلى سبيل المثال: تعرض المسؤول الإعلامي لنقابة مؤسسة الكهرباء لحادثة رش بمادة الأسيد الخام إثر كشفه فساد مسؤول كبير، وإقالة وفاء الصلوي، مديرة الشؤون القانونية في مؤسسة الكهرباء، عقب رفضها تمرير عمليات تتضمن فساداً.
والعمود الآخر من منظومة الأجهزة الرقابية يتمثل في المجتمع المدني بما فيه الإعلام المستقل. فالمجتمع المدني هو الأقرب للشعب وعليه مسؤولية تمثيل مصالحه، بالتالي له الحق في الاطلاع على المسؤوليات المنوطة بالسلطة الحالية وخططها باتجاه مكافحة الفساد، خاصة فيما يتعلق بمعالجة الشؤون المالية (الإيرادات)، بما فيها المساعدات الإنسانية التي تتلقاها وستتلقاها اليمن من أجل تخفيف الكارثة الإنسانية وإعادة بناء الدولة ودعمها لتقوم بالإصلاحات الاقتصادية ذات البعد التنموي وإعادة الإعمار.
ويحق لهذه المؤسسات الرقابية أن تطلع على تقارير المنظمات الدولية المانحة العاملة في المجال الإغاثي والتنموي، وأن تقوم بعمل تقارير ميدانية لتقييم الأثر وتقديم الملاحظات عن المشاريع المختلفة بطريقة محايدة، فهذه الجهات المختلفة تُشكّل منظومة متكاملة للرقابة والمساءلة والمحاسبة، بالذات تلك التي تتعلق باسترداد أموال الشعب.
ومن المهم بمكان أن تكون القيادة العليا على اتصال وتواصل دائمين مع الجهات الرقابية المذكورة وتكليفها برفع تقاريرها للتسعة أعوام الماضية، ومناقشتها للتثبّت من صحتها قبل اتخاذ أي قرار سياسي بشأن من يثبت ضلوعه بالفساد المؤسسي أو كان لديه شركاء من القطاع الخاص. والأولوية الرئيسة حالياً ينبغي أن تكون لاسترداد أموال الدولة التي هي في أمس الحاجة إليها لدعمها في عملية الإصلاحات المؤسساتية والاقتصاد من ناحية، واستيعاب مساعدات المانحين بطريقة شفافة وعملية من ناحية أخرى.
إن وجود وكفاءة هذه المؤسسات الرقابية سيساهم في بناء الثقة، ليس فقط بين الأطراف المتنازعة، بل أيضاً ستزيد من ثقة المجتمع الدولي بالحكومة اليمنية وسيعيد بناء ثقة الشعب بقيادته ومؤسسات الدولة، وسيبني الانتماء للعملية السياسية ويسرّع في إعادة الاستقرار.
لذلك لا يجب أن يكتفي المجتمع الدولي بتكليف الحكومة اليمنية بعمل الإصلاحات المختلفة، بل يجب أن يكون شريكاً حقيقياً في تحقيق هذه الإصلاحات من خلال الخبراء المطلعين على الشأن اليمني وممن يمكنهم النزول إلى الأرض وعمل تقييم مباشر على الأجهزة الرقابية المختلفة وعقد اللقاءات مع المعنيين في هذه الجهات ومناقشة الوضع الراهن معهم ومع قيادة الدولة للوصول إلى خطة عمل سريعة للإصلاح المؤسساتي، بما فيه التدريب والدعم المالي اللوجستي وإدارة نظم المعلومات والرقمنة والشفافية وآليات عمل التقارير الدورية وعقد لقاءات مجتمعية للإعلان عن التقارير والتعاون مع الإعلام والمجتمع المدني لتشكيل حلقة متكاملة لدعم الحكم الرشيد ومكافحة الفساد على كل المستويات.
وإذا لم يتم هذا، فإن المساعدات الإنسانية والدعم الذي يؤخذ من جيوب دافعي الضرائب في الدول المانحة لن يحقق السلام في اليمن ولن يخفف المعاناة الإنسانية، بل إنه سيصب في استفحال الفساد واستدامة الصراع.
هبة عيدروس: محاضرة جامعية في كلية الحقوق في جامعة عدن، و محامية ومستشارة قانونية، و مدافعة عن حقوق الإنسان والموروث الثقافي لعدن. حصلت على درجة الماجستير في القانون الجنائي عام 2014، وحاليا هي باحثة مبتعثة في جمهورية مصر العربية للحصول على درجة الدكتوراة من كلية الحقوق - جامعة عين شمس. تعمل هبة كرئيسة لمنظمة سواسية لحقوق الإنسان. وسابقا ترأست فريق متابعة شؤون المعتقلين والمخفيين قسريا عام 2016، وكانت سفيرة اليمن لدى الاتحاد الدولي للدفاع عن حقوق الطفل عام 2018. كانت هبة عضوة هيئة إدارية في مؤسسة الأمل للطلاب المتفوقين في عدن عام 2018، و عملت كعضوة في مركز دعم وصناعة القرار للمجلس الانتقالي الجنوبي، ثم رئيسة للدائرة القانونية للمجلس الانتقالي الجنوبي (سابقا)، عضوة في شبكة التضامن النسوي و حاصلة على زمالة مبادرة مسار السلام للقيادة النسوية.
ليفانت - هبة عيدروس
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!