الوضع المظلم
الأحد ١٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
قضية السلمية واللاعنف وفشل الثورة
عمار ديوب

شكل رحيل الشيخ جودت سعيد، ولروحه السلام، مناسبة لنقاش جديد في خيارات الثورية السورية؛ فأيّهما الأصح؛ خيار السلمية والمظاهرات أم خيار العسكرة وتحرير البلدات والمدن والتدخل الخارجي؟

بعيداً عن أدلجة أحد الخيارين، وإن كان هذا الأصح أو ذاك، فقد انتهجت الثورة الشعبية في بدايتها خيار السلمية. وهناك عشرات الأمثلة، والتي أوضحت رفض استخدام السلاح الذي كان يتقصد النظام تركه، هنا وهناك، لتتورّط البلدات باستخدامه، وكذلك انخفاض منسوب العنف في بدايات الثورة من قبل النظام بسبب ذلك. في تلك المرحلة، توسعت المظاهرات إلى أغلبية المدن السورية؛ حتى مع نشوء ظاهرة الجيش الحر، ظلّت المظاهرات والسلمية هما الخياران المهيمنان، وامتدت الثورة إلى مناطق جديدة.

شكل دخول الإسلاميين على خط الثورة البداية الممنهجة للتسليح وتحرير البلدات، وبقصدٍ وحيد، وهو طلب التدخل الخارجي. أرادها النظام ثورة مسلحة منذ اليوم الأوّل، كي يستطيع اجتثاثها، وإن الفشل في ذلك، دفعه لإطلاق سراح عشرات الجهاديين، وبهدفٍ محدّد ألا هو تشكيل مجموعات سلفية وجهادية. الخطأ الذي وقعت به الثورة، أنّها لم تستوعب خطورة دخول هذه المجموعات إلى مناطق الثورة، وضرورة عزلها نهائياً، ولو اضطرت إلى تصفيتها جسدياً؛ دَعا حينها المفكر العربي سلامة كيلة إلى ذلك، وتلقى سخرية مريرة. عكس ذلك، رحبت قيادات المجلس الوطني السوري بأية مجموعات تقاتل النظام. الترحاب ذاك، انطلق، من رؤية مسبقة، أن هذا النظام غير ممكن إسقاطه بالثورة، أي لا يثق الإسلاميون بالشعب وبثورته، ومعهم كل من أيّد العسكرة والأسلمة والتدخل الخارجي؛ أغلبية الليبراليين السوريين لديهم الرؤية ذاتها. الانقسام في مؤسسات المعارضة، إلى هيئة التنسيق، والمجلس الوطني، لعب دوراً كبيراً في تعزيز خيار العسكرة؛ وطبعاً لم يتوقف النظام عن محاولات توريط الثورة بالعسكرة والسلفية والجهادية، وتسهيل وصول السلاح إليها من مستودعات الجيش نفسه ومن الخارج.

واقعياً، إنّ غياب التوازن بين كفتي الصراع في الترسانة العسكرية، يقول بنفي خيار العسكرة لدى الثورة بشكل كامل، وطبعاً هنا لا ننطلق من التاريخ العنفي للنظام، كما توقع كثيرون في 2011. الواقع هذا، يقود منطقياً إلى أنّ هناك خطأ كلياً في خيار العسكرة، وضرورة كلية في انتهاج خيار السلمية، ورفده بالرؤى والسياسات والمواقف والتحليلات، وتعزيز حضوره لدى المتظاهرين ومنظماتهم وسواه، وبالتالي رفض الدعم الخارجي أو أية أفكار تقول بالعسكرة، وتوريد السلاح. الأسوأ، أن الخيار العسكري، ولنفترض أنّه كان ضرورة، كما يقول أصحابه، جاء فوضوياً، وفئوياً، وضعيفاً، وضمن قائمة المسموح والممنوع، فمضادات الطيران غير مسموح بها، والتدخل العسكري غير ممكن، وسواه كثير، فكانت حصيلة ذلك، غياب التوازن العسكري، وعسكرة الثورة بشكل فوضوي. وزاد في الشعر السيء بيتاً، انتهاج خيار تحرير البلدات؛ فبدلاً من تحرير العاصمة، والعمل من أجل ذلك، تمَّ تحرير بلداتٍ هامشيّة، وبعيدة عن العاصمة، ولم يمانع النظام كثيراً في ذلك، حيث يمكن استردادها، أو تدميرها أيضاً، وأيضاً، التحرير سيكون مناسبة ممتازة للحروب بين الفصائل. مع دخول الأسلمة إلى خط العسكرة، أصبح الأمر لصالحها بشكل كامل، وهو ما فعلته في أغلبية المناطق، فأكملت تحرير البلدات، وقامت بتصفية الجيوش الحرة، هنا وهناك.

كل ذلك، ولم تتقدم المعارضة برؤية ومواقف سياسية واضحة ضد العسكرة والأسلمة أو ضبطها في مشروع الثورة كمشروع وطني. بل وهناك من يرى أن خيار السلفية والجهادية كان خياراً طبيعياً ووحيداً، وهو بذلك يُسقِط دور النظام في خلقه، ودور المعارضة كذلك، ودور الخارج، والأسوأ ألّا يرى خياراً آخر، ويتجاهل الدور الأساسي للثورة الشعبية السلمية في 2011، في وصولها إلى مختلف مناطق سوريا.

لن أعتمد على مقولة الأمور بخواتيمها؛ حيث إنّ فوضى العسكرة ودور الأسلمة أدّيا إلى الحالة الكارثية، وأكملتا بذلك دور النظام في المأساة السورية، وتسليم البلاد للخارج، والتفكك، والتعفن، ونزوح الملايين، ودمار أكثر من نصف سوريا، ومئات آلاف المعتقلين، وسيطرت الاحتلالات والخارج على كامل مفاصل النظام والمعارضة.

ولكن أيضاً، أليس من الضرورة، وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت، إعادة النقاش حول الأوضاع السورية الراهنة، كما حاولنا توصيفها، وأية أشكال مناسبة للنضال، ونقاش أدوار الفصائل حالياً، وأية علاقة تربطها بالثورة، سيما أن الائتلاف الوطني، الذي ينطق باسم الثورة، يتحالف معها، وهي فصائل إسلامية، أو "قطاع طرق" ونهب للثروات، وتابعة لهذه الدولة أو تلك، ولن نسهب في الحديث عن جهادية هيئة تحرير الشام، أو دور قسد، والرؤية غير الثورية لتي تحكم هاتين التشكيلتين. إن الحالة العسكرية للمناطق الخارجة عن النظام، الآن، تقول بأن قضية العسكرة لم تكن خياراً سليماً، والمقدمات، أدّت إلى هذه النتائج بكل بساطة ووضوح.

لا يشغل صاحب هذا النص، تحميل المسؤوليات جزافاً، أو التركيز على صحة مواقف هذه المعارضة وتكفير الأخرى. هذا ليس القصد؛ الفكرة هنا، أن نمتلك الشجاعة في النقد، ومتابعة تطوّر الثورة لحظة بحظة، كي نفهم جيداً كيف بدأ الخطأ، وكيف تعزّز، وأصبح مأساة مفتوحة. لم ينتهِ الوضع السوري، وهو مفتوح على مآسٍ جديدة؛ فهناك احتلالات، وسوريا مقسمة إلى مناطق أربعة، وهي معسكرة بالكامل. في ظل هذه الأوضاع، هل يمكن العودة إلى السلمية والتظاهرات كخيارٍ وحيد للثورة؟ طبعاً هذا غير ممكن من أصله، فالعودة إلى الخيار المذكور تتطلب صفقة سياسية دولية وإقليمية، تُنهي حالة التقسيم والعسكرة، وتحتكر السلاح، وتجتث المنظمات الجهادية. مع ذلك، يجب دعم خيار السلمية والتظاهر كخيارٍ أساسيٍّ، في المناطق الأربعة، والتأكيد على ضرورة تشكيل مؤسسات قضائية مدنية ورقابية؛ فمثلاً، لماذا يتم الاعتماد على المجلس الإسلامي السوري كمرجعية للفصائل؟ أليس الأفضل، أن تكون المرجعية لقضاة نزيهين، ووفقاً لقوانين ومحاكم مدنية؟ وأيضاً، لماذا لا يتمّ الاعتماد على ضباط منشقين بدلاً من شخصيات "لا ناقة لها ولا جمل" بالعمل العسكري؟ إن دعم خيار السلمية، وتهميش خيار العسكرة، وضبطه، وإبعاد من لا علاقة لها بالعسكرة عن قيادة الفصائل، هو أمر في غاية الضرورة.

خلاصة المقال.. إن خيار السلميّة، كان سليماً بالكامل، وإذا كان السلاح ضرورة في بعض المراحل، ومن أجل حماية التظاهرات وليس من أجل تحرير المدن، فقد كان تنظيمه وضبطه ومركزته قضية لازمة بالضرورة. لقد فشلت المعارضة في كل ذلك، وأكملت دور النظام في تخريب سوريا، وتسليمها للخارج، وتحوّلت هي ذاتها إلى أداةٍ بيد ذلك الخارج؛ ليس هي فقط، بل والنظام وقسد وهيئة تحرير الشام.

 

ليفانت - عمّار ديّوب

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!