الوضع المظلم
الخميس ٠٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
في حيثيات التطبيع وسياقاته السياسية والعسكرية
نزار بعريني

يبدو لي أنّ التفسير الموضوعي الوحيد لطبيعة المتغيّرات الجارية في السياسات السعودية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، الإقليمي بشكل خاص، هو إدراك القيادة "الشابّة" -بعد فوات الأوان بالنسبة لنا، ضحايا الاستبداد والخيار الأمني/ العسكري الطائفي- لطبيعة المتغيّرات الاستراتيجية في أدوات السيطرة الإقليمية الأمريكية لحقبة ما بعد "الحرب الباردة" (١) وأعطت  للشراكة مع أدوات المشروع "الإيراني" -الوجه الآخر لأذرع الإسلام السياسي الوهّابي- الأولويّة والأفضلية، على شراكاتها مع مرتكزات السيطرة الإقليمية لحقبة الحرب الباردة السابقة، التي كانت تحتلّ فيها "أذرع الوهابيّة السعودية" (٢) وأذرع دولة الاحتلال الإسرائيلي المرتبة الأولى، وقد ألمح معالي "سمو ولي العهد" المقدام أنّ سياسات المملكة "الوهابيّة" السابقة، المحليّة والإقليمية، كانت تجسيداً لإرادة أمريكية، وفي سياق حربها ضدّ الشيوعية.

على أيّة حال، من المؤكّد أنّ ظهور أشكال مختلفة من التصدّعات في جدار العلاقات الاستراتيجية السعودية الأمريكية لم يكن بفعل زلزال طبيعي، ولم يكن التناقض في سياسيات الحليفين الاستراتيجيين تجاه قضايا الصراع في العراق وسوريا خارج ما حصل من تبدّل استراتيجي في أدوات مشروع السيطرة الاستراتيجية الإقليمية للولايات المتّحدة(٣)، جعلها  تعتمد على أذرع  الإرهاب الشيعي، وصل إلى مراحل إقامة علاقات نهب وسيطرة تشاركية في العراق، وتجسّد في خيار الحرب والتطييف ضد السوريين، (في أعقاب حراك ربيع ٢٠١١)، بمواجهات دموية مدمّرة للحراك وجمهوره، ومقوّمات الدولة السورية، بين  مليشيات الحشد الشعبي الإيرانية، شريكة الولايات المتّحدة الجديدة في حكم العراق ولبنان، والميليشيات السعودية القاعدية، "بنك" إرهاب أدوات الحروب الأمريكية في أفغانستان)، وقد كانت الولايات المتّحدة هي الرابح الأكبر من نتائج حروب الميلشيات والتطييف؛ إضافة إلى شركائها في أدوات المشروع الإيراني، بالطبع؛ وكان من الطبيعي أن يصبح السعوديون خارج  موازين الصراع العسكرية الميليشياوية  خلال المرحلة الثانية (٢٠١٥- ٢٠٢٠)؛ وقد تحقق الهدف الرئيس المشترك للجميع في المرحلة الأولى من الخيار الأمني العسكري الطائفي ٢٠١١- ٢٠١٤ (٤).

كارثيّة الدور الأمريكي في نجاح جهود سياسات الميلشة والتطييف الإيرانية/ السعودية، الداعشية، وحصد نتائجها، لم تقتصر على مرحلة محدّدة من الصراع.

إذ ساهمت مصالح وسياسات السيطرة الإقليمية الأمريكية (التي تتعارض استراتيجيّاً في كامل الإقليم مع قوى ومسارات الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي، وارتكزت على تحالفات استراتيجية مع أنظمة الديكتاتوريات العسكرية والعائلية/ القبليّة)، بدور نوعي في توفير ظروف إطلاق  مسار الخيار العسكري الطائفي "الإيرو سعودي" في أعقاب تفجّر صراع سياسي غير مسبوق خلال ٢٠١١- ٢٠١٢، (من خلال المماطلة والتسويف في تقديم الدعم الكافي لنجاح مساعي٠ ومسار الخيار السياسي العربي/ التركي، الذي فشّلته إيران وشركاؤها عملياً في المدن والقرى السورية المنتفضة، وأسقط  مشروعه السياسي فيتو مزدوج روسي/ صيني في جلسة ٤ شباط لمجلس الأمن)، ونسّقت في ٢٠١٤ تدخّلاً دوليّاً مباشراً بذريعة مواجهة إرهاب داعش، (التي سمح  لها انسحابا  تكتيكياً أمريكياً في العراق، في نهاية ٢٠١١، وإطلاق يد حكومة نور المالكي الإيرانية، باحتلال الموصل والقفز إلى سوريا) وفي ٢٠١٥، غزواً روسيّاً عسكرياً مباشراً غير مسبوق في تاريخ العلاقات السورية/ الروسية، لمواجهة الميليشيات المدعومة من أنظمة تركيا والسعودية، وبذريعة الحفاظ على مؤسسات الدولة، ومنع سقوطها بيد الإرهاب "السعودي"؛ وقد كان من الطبيعي أن تخرج من الحرب السورية، سواء في مرحلتها الأولى (٢٠١١- ٢٠١٤- قطع مسار الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي) أو الثانية (٢١٥-٢٠٢٠ إعادة توزيع الجغرافيا السوريّة  لصالح الميليشيات الإيرانيّة  والقسدية)، بحصّة الأسد، وكان مقدّراً للانتصار الأمريكي، المتشارك مع الميليشيات الإيرانيّة/ القسديّة، أن يأتي  كاملاً وناجزاً، لولا ما وضعته من عقبات، سياسية وعسكرية، مصالح الشركاء القدامى (المهمّشين)، السعودي والإسرائيلي والتركي؛ خاصّة هذا الأخير الإخواني المتمرّد، الذي كان لمواجهته خطط وسياسات إعادة السيطرة الإيرو أمريكية – الروسية، الدور الأكبر، ليس فقط  بفعل عمق وتشعّب المصالح السورية التركية (٥).

والحال هكذا، لا غرابة أن تتجاهل أو تجهل  جميع قوى الصراع (ونخب المعارضات، في اليمين الإخواني واليسار الديمقراطي، التي باتت جزءاً من مشروع التسوية السياسية الأمريكية)، أنّ ورقة القوّة الأساسية التي يمتلكها النظام، والتي تجعل من استمرار سلطته أفضل الخيارات الأمريكية، هي فيما تشكله "سوريا الأسد" من حلقة وصل رئيسة في استمرار ونجاح مشروع السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة والنظام الايراني معاً، وبما بات  يشكّله المشروع الإيراني، وأذرعه الميليشياوية، من أدوات تشاركية في  تحقيق أهداف السيطرة الإقليمية الأمريكية، التي تتقاطع استراتيجيّاً حول هدف قطع مسارات الانتقال السياسي والتغيير الديمقراطي، وتفشيل مؤسسات الدولة الوطنية (الفوضى الخلّاقة)، بأذرع الثورة المضادة الميليشياوية، الطائفية والقومية؛ ونفهم أيضاً التضليل الذي تمارسه "نخب اليسار الديمقراطي"، التي انحازت لمشروع "قسد" الأمريكي، وتروّج لإمكانية صيرورته "نموذجاً ديمقراطياً" في ظل نظام سياسي/ لا مركزي.

ضمن هذا السياق، من مصلحة جميع السوريين  إدراك  طبيعة الأخطار التي تترتب على تنفيذ  مشروع "التسوية السياسية" التي عملت  واشنطن على توفير شروطها بالتنسيق مع روسيا؛ في مرحلة الحرب  الثانية -حروب  إعادة تقاسم الحصص ومناطق النفوذ بين ٢٠١٥- ٢٠٢٠، لصالح أدوات السيطرة الأيرو أمريكية- وفي مرحلته الثالثة، السياسيّة، مرحلة إعادة التأهيل، التي بدأت في أعقاب اتفاقات الهدنة الدائمة، التي تضمّنها الاتفاق التركي الروسي في ٥ آذار ٢٠٢٠، وشكّل أبرز محطّاتها "الانتخابات البرلمانية والرئاسية ٢٠٢١، وإطلاق الملك الأردني لمسار "التطبيع العربي"، وخطوات التطبيع مع النظام التركي ٢٠٢٢، وتتمحور حول الوصول إلى تهدئة مستدامة، وإعادة تأهيل متزامن، لسلطات الأمر الواقع القائمة، التي أفرزتها موازين قوى الصراع بين ٢٠١٥- ٢٠٢٠؛  خاصّة سلطتي "سوريا المفيدة" (الإيرانية) وسلطة "الإدارة الذاتية" (الأمريكية)، والذي يضمن بالدرجة الأولى الحفاظ على حصّة الولايات المتّحدة، ووكيلها القسدي، وشريكها الإيراني بغطاء الشرعية السورية التي يمثّلها النظام ويد الولايات المتّحدة العليا، بالتالي، في منع قيام حل سياسي وطني، واستمرار حالة التفشيل والتقسيم.

 تحت مظلّة "التسوية السياسية" الأمريكية إيّاها، (التي تتناقض مع ما دعت إليه بعض بنود القرار ٢٢٥٤)، يبرز مجدّداً، بعد مرحلة صراعات تثقيل الموازين بين تركيا وروسيا والولايات المتّحدة طيلة ٢٠٢٢، تسارع خطوات قطار التطبيع في استغلال "للفرصة الذهبية" التي وفّرتها نتائج الزلزال المدمّر -الذي يجرّ عربته الرئيسة قادة المنطقة- أكثر أدوات مشروع السيطرة الإقليمية الأمريكية إخلاصاً.

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

(١)- التي بدأت أولى إرهاصاتها مع انتصار الثورة المضادة  للتغيير الديمقراطي الميليشياوية في طهران، شباط ٧٩ بدعم "لوجستي" أمريكي/ فرنسي، وأخذت تتبلور خلال ثمانينات القرن الماضي في أدوات تأجيج الحرب العراقية الإيرانية، وفي مواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان، ووصلت إلى أعلى درجات الوضوح إبان غزو العراق ٢٠٠٣، وما بعده، في تأسيس نظام ديمقراطي طائفي، تشاركي، أيرو أمريكي.

(٢)- ليس خارج السياق، ما أظّنه أنّ إدراك القيادة الإسرائيلية لطبيعة هذا التغيّر الجديد في خطط السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة -حليفها الاستراتيجي وكفيل أمنها- قد قلّص من قدرتها على ردع أدوات التغلغل الايراني المنافسة، في العراق وسوريا ولبنان، وعزّز جهود  حكومتها المواجهة لأذرع الأخطبوط الإيراني للاعتماد على النفس أوّلاً، والتنسيق مع القيادة الروسية، في درجة ثانية، لحماية ما تعتقده حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلية مصالحها العليا خلال الصراع على سوريا، المستمرّ منذ ٢٠١١، حيث واجهت أدوات المشروع "الأيرو أمريكي" أكبر التحدّيات التي خلقتها ثورات الربيع العربي، في تمرّدات شعبية سورية غير مسبوقة ضدّ مرتكزات السيطرة الإقليمية للنظام الإيراني؛ وهو ما يفسّر طبيعة الحرب الدفاعية التي استخدمت فيها الولايات المتّحدة وشريكيها الإيراني (وحليفهما الروسي) جميع الوسائل الهجومية، وفي مقدمتها خيارات العسكرة والتطييف وأذرع الإسلام السياسي الميليشياوية، لإجهاض أهداف حراك السوريين السلمي الإصلاحي، وتحويله إلى مجازر طائفية، أخذت أشكال  الحروب الطائفية، السعودية/ الإيرانية.

(٣)- الذي يتمحور حول خلق ظروف تنافس وصراع شيعي/ سني ، يُغرق المنطقة في حروب طائفية بين أذرع الميليشيات الطائفية، السعودية الإيرانية، تفتت شعوب المنطقة، وتفشّل مؤسسات دولها، وتوفّر البيئة الأمثل لتبرير تدخّل عسكري أمريكي مباشر وإحكام سيطرة مطلقة على صراعات المنطقة، ومآلات تطوّرها، بما يؤبّد وسائل وأدوات السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة، في سياق تحقيق أهداف مشروع هيمنتها الإمبريالية على العالم ضمن هذا السياق، نفهم أهمّ تطوّرات استراتيجيات وسياسات واشنطن تجاه المنطقة، قبل نهاية سبعينات القرن الماضي؛ والتي يأتي في مقدمتها تسهيل نجاح الثورة المضادة للتغيير الديمقراطي الميليشياوية "الشيعية" في طهران، شباط، ١٩٧٩، وما استخدمته من وسائل وقوى في مواجهة "الغزو السوفياتي لأفغانستان (وقد نتج عنها  ظهور وتمدد القاعدة وطالبان، وتحولهما إلى قوّة إقليمية وعالمية)، وحيثيات إطلاق إدارة الرئيس الأمريكي رولاند ريغن لاستراتيجية "محاربة الإرهاب الإسلامي" كبديل ليافطة محاربة الشيوعية. تبيّن القراءة الدقيقة لظروف تحوّل الإسلام السياسي إلى ميليشيات مقاتلة ارتباطها الوثيق بالعامل الأمريكي، والسعي لتجييرها كمبرر وأدوات لتحقيق أهداف السيطرة الإقليمية.  يبدو هذا الترابط جليّاً في ظروف مواجهة ودحر الغزو السوفياتي لأفغانستان خلال الحرب الباردة، حيث شكّل الدعم السعودي/ الأمريكي العامل الحاسم في بروز طالبان والقاعدة، وسيطرتها لاحقاً على أفغانستان، بالتنسيق مع أذرع النظام الايراني. الحالة الأكثر بروزاً تبلورت في أعقاب غزو العراق، وتحوّله، في ظل سيطرة أيرو أمريكي إلى بنك إرهاب إقليمي، ومركز تحشيد وإطلاق الميليشيات الطائفية، القاعدية والشيعيّة، التي كان لها الدور الأبرز في هزيمة الثورة السورية، وتحويلها إلى ثورة مضادة.

(٤)- تقاطعت مصالح أنظمة السعودية وإيران، وشركائهم السوريين واللبنانيين، في دفع الصراع السياسي، الذي فجّره حراك السوريين السلمي الإصلاحي الوطني الديمقراطي في ربيع ٢٠١١، على مسارات التطييف والميلشيات، وتكاملت مع جهود روسيا والولايات المتحدة، في تفشيل مسارات الحل السياسي التي سعت إليها الجامعة العربية، بدعم تركي، خاصّة بعد تحويل جهود الحل السياسي إلى مجلس الأمن، وإسقاط مشروع السلام العربي في جلسة ٤ شباط ٢٠١٢، وإطلاق خطّة "كوفي أنان"، التي تضمّنت إقراراً "روسيّاً أمريكياً- عربيّاً "ببقاء سلطة النظام، (بما يتناقض مع خطّة السلام العربية، التي دعت إلى نقل مهام الرئاسة إلى نائب الرئيس، في إطار خارطة طريق انتقال سياسي وتحوّل ديمقراطي)، واعتبارها الطرف السوري الشرعي في مفاوضات "التسوية السياسية"، وأساساً للقرار ٢٢٥٤.

(٥)-  في حين حرصت سياسات الولايات المتّحدة على "تعويض" خسائر دولة الاحتلال لخروجها من أولويات شراكة السيطرة الإقليمية، (وقد كان ذلك على حساب حقوق الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى، وعلى حساب "السيادة السورية" -كما يُظهر استمرار الهجمات العدوانية الإسرائيلية المدمّرة دون رادع)، كانت سياسات تحالفاتها المتجدّدة مع أذرع الإسلام السياسي الإيراني على حساب علاقات تحالف "ناتيويّة" تاريخية مع شريكتها الإقليمية الأكبر، تركيا، التي اضطرّت قيادتها لمواجهة ما بدا من استهتار في علاقاتها التشاركيّة، والتراجع في أولويات مصالحها على قائمة الأجندات الأمريكية، لخوض أكثر من خمسة حروب ضدّ وكيلها  القسدي، والدخول في مواجهات مباشرة مع الروس الذين دخلوا الحرب السورية ٢٠١٥ لحساب استراتيجية السيطرة "الأيرو أمريكية"، كادت أن تتحوّل إلى حرب إقليمية كبرى  في ٢٠١٦/ ٢٠١٩ ، لولا قوّة ردع عصا واشنطن الغليظة.

ليفانت - نزار بعريني

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!