الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الكورونا  المعجزة وحتميّة التغيير
لمى الأتاسي

لمن لا يؤمن بالله، لنقل أن الأرض ترسل لنا قرارها وتتصرف بشكل سريع، فما أحدثه وباء الكورونا وما سيحدثه يفوق ما يطلبه بعض المصلحين السياسيين والمدنيين المدافعين عن البيئة منذ أعوام. الكورونا المعجزة


اليوم بدون أي جهد توقفت السيارات والطائرات عن السير فارتاحت البيئة، كذلك توقفت الكثير من المصانع عن التلويث، وأصبح المستهلك يشتري غير مخير إنتاج محلي، مخففاً بهذا من استهلاك المحروقات للنقل، بات يشتري منتوج محلي مهما بلغ الثمن و مهما ارتفع أجر اليد العاملة وضرائب الإنتاج المحلي. لكن ورغم الأخبار التي تفيد بأن إيطاليا وغيرها من دول أوروبا والغرب تتصدّر الدرجة الأعلى من الإصابات بالوباء والوفيّات إلا أن الواقع لربما مختلف قليلاً عما يقال.


عملياً نحن لا نملك كافة المعلومات عن حقيقة انتشار الوباء في كل دول العالم، لكن من المؤكد أنه في أغلب الدول الفقيرة ذات الكثافة السكانية لا توجد إحصائيات جادة ولا عدد مشافي كافي ولا أحد يعلم كم عدد الوفيات هناك بهذا الداء أو غيره. بالتالي الدول النامية في أفريقيا والشرق الأوسط ستكون غالباً هي الأكثر تأثّراً بتلك الكارثة وهذا لأنها لا تملك البنى التحتيّة والإمكانيات المادية لمواجهة الوباء ولا سيما أنّ هناك أزمات أخرى كثيرة تعيشها منذ مدة بشكل تراكمي.


عندما نتابع تلفزيونات العالم نراها تتحدث عن كارثيّة الوضع في إيطاليا والولايات المتحدة وأوروبا وطبعاً الصين كونها المصدر الذي خرج منه الوباء. نتابع لحظة بلحظة في دول أوروبا ماذا تفعل الحكومة والعلماء لمواجهة الأزمة، نرى عمليّاً وبشكل ملموس الإمكانيات المادية الهائلة التي تضعها صناديق الدولة تحت تصرّف المواطنين، في فرنسا وألمانيا، معاشات شهرية تتجاوز قيمة الألف يورو ترصد للموظفين لكي يبقوا في منازلهم. نتابع بجديّة تفاصيل وصور المشافي وعددها ونوعيّتها ونتابع كذلك التزام المواطن بما يصدر من أوامر واحترام الجميع بخشوع للقوانين. هذا كله في الدول الفقيرة غير ممكن اذ إنه في دول الربيع العربي على سبيل المثال قبل كارثة الكورونا لم يكن هناك عدد مشافٍ كافٍ في البلاد لتسديد احتياجات المواطن في الأوقات العادية فكيف الآن وخزائن تلك الدول فارغة ولا تكفي لتأمين الاحتياجات الأولية للمواطن. الكورونا المعجزة


لا بدّ من الإقرار بأنّ الحكومات في أغلب الدول الفقيرة لم تبذل منذ عقود أي مجهود جاد لإدارة البلاد استراتيجيّاً نحو التنمية. الغني مثلا هناك يتعالج في الغرب ويعيش منفصل عن واقع الفقر في بلاده ولا يدفع ضرائب كما هو الحال في أي دولة متطوّرة منظّمة. لم تقم حكومات تلك الدول بترسيخ دورها التربوي الاجتماعي وتركته عشوائي لمنظمات العبادة وللمنظمات الإنسانية الأجنبية أحياناً. تقاعست الحكومات هناك تدريجياً عن تأدية واجباتها تجاه مواطنيها، خزائنها فارغة أو منهوبة أو غير مدارة علمياً والنتيجة واحدة، فهي لا تملك إمكانيات فعلية للقيام بواجباتها، إنها بموضوعية لا تملك حتى سلطة كف يد الفساد على أعضائها ، لذا هي اكتفت بإدارة عملية الدفاع عن السلطة وتمسكت بدور «الشرطي» ضدّ الشعب، هذا وأحاطت ذاتها بكافّة الصلاحيات الممكنة لممارسة العنف على المواطن، لدرجة أنه في بعض الدول أصبح العنف هو لغة الحوار الوحيدة الممكنة بين الحكومة والمواطن وكذلك ما بين أفراد المجتمع وعلى نطاق الأسرة المصغرة.


وهنا يجدر بنا الإشارة الى أن العلاقة السلطوية أحادية الطرف بين الحكومات والشعوب في تلك الدول أدّت الى أزمة ثقة عميقة، بالتالي المواطن عاد فاقد الثقة تماماً بالقرارات الصادرة عن حكومته وبكل ما يعطى له من أوامر وتعليمات، حتى القوانين العادية هو يصعب عليه احترامها لكونه اعتاد على أن تكون مبرمجة لمنافع فئة بعينها. إن كافة الأبحاث تؤكد كيف أن الثقة بين الشعوب وحكوماتها منعدمة في تلك الدول المحكومة بقبضة من حديد حيث لا تترك أيّ هامش لحوار إنساني لكونه من المحظورات الديمقراطية. وهذا أيضاً عامل إضافي يجعل عملية إدارة كارثة صحيّة كتلك التي نعيشها اليوم أكثر تعقيداً. الكورونا المعجزة


مقوّمات إدارة عملية بناء الثقة بين الحكومات والشعوب تستدعي شفافية اقتصادية صعبة الوصول إليها في دول تحكمها مجموعات بشريّة لا ترى الفرق بين المال العام والمال الخاص. قرون من الزمن حضارياً تفصل بين ما هو متوفر للفرد في قرية نائية أوروبية وما هو متوفر للفرد في بعض دول أفريقيا أو المشرق. الماء والكهرباء الذان هما الحدّ الأدنى، تفتقدهم دول كثيرة ولا تستطيع توفيرها لمواطنيها. فكيف نجرؤ أن نتحدّث عن مشافي مجهّزة في قرى لا تتوفر فيها المراحيض العامة والطرقات والكهرباء؟.


رغم النقد الذي يوجّهه الشارع والإعلام للقطاع الصحي في بعض الدول الأوروبية إلا أنه في تلك الدول المنظمة تتوفر المشافي كخدمات عامة لكل مجمع يقطنه مواطنين موزعين جغرافياً بشكل عادل وتمنح العلاج مجاناً. ناهيك عن الأجهزة والمستوى العلمي للأطباء والطاقم الطبي. من هنا الكثير من التوقّعات الحالية تؤكد كيف أن البنية التحتية للدول المتطورة ومؤسساتها المنظمة تضمن إمكانية تجاوزها لكارثة الكورونا خلال مدة زمنية دون أن تنهار الدولة، سيتمّ احتواؤها بشكل علمي وسياسي في الدول المتطورة، لكن في الدول الفقيرة لن يكون هذا ممكن قط، لأنّ احتواءها يستدعي تغيير أسلوب الإدارة لتلك البلاد، مما سيكون غير ممكن إنجازه خصوصاً بذات سرعة انتشار الوباء.


رغم المأساة الحالية وتحدّيات المرحلة القادمة ما سيلي الكارثة سيكون بمثابة معجزة بالنسبة للدول الفقيرة لأنه سيفرض عملية التغيير التي لطالما حلم بها مواطنو تلك الدول، هذا التغيير في أسلوب إدارة البلاد، هذا المفهوم العصري لدور السلطة وعلاقة الحكومة الوظيفية الخدمية بالشعب، الحلم الديمقراطي سيصبح ممكن بعدما كان بعيد، الذي كان سابقاً يتطلّب ثورات مميتة سيصبح أخيراً متاحاً للشعوب، لماذا ؟


لأن الحكومات المعتمدة على العنف والعسكر ستضعف تحت وطأة انتشار الوباء بين الجنود وستنهار اقتصادياً، حيث لن تتمكّن مثلاً من تمويل العلاج لضبّاطها وأزلامها، ستصبح ضعيفة جداً، وسيعلو صوت الغضب العام، مما قد يترك سريعاً منذ بداية الأزمة مجال لانتهاج سياسات محليّة حقيقة، معتمدة على الوعي العام للنخب المتوفرة، سيتم التغيير الإداري للحكومات شبه تلقائيّاً في أغلب الدول الفقيرة المحكومة بالعسكر ولكن وللأسف سيتم هذا بعد ما سيحصد الوباء أرواح الكثير من الأبرياء. الكورونا المعجزة


إيجاد النخب ذات الكفاءات الساعية جديّاً لإنجاز نقلة حضارية، سيصبح قريباً الهاجس الجاد لشعوب تلك الدول محليّاً، سيعي الجميع ضرورة اللامركزية في الإدارة للحدّ من الفساد وبناء الثقة بين السلطة والمواطن بعد الكارثة، الناجون سيفكرون بواقعية حتمية بعيداً عما سوقته لهم سابقاً النخب ذات الإيديولوجيات القديمة.


مما لا شك فيه، هو أن إدارة التغيير لن تتم كما توقعها مفكرو الربيع العربي، لقد تم الإعلان رسميا عن فشل تلك المحاولات لإدارة التغيير، ثورات حقيقية أعلنت فشلها حين عمّ الفساد والمحسوبيات والعشوائية صفوف القيادات الثورية للمعارضة وتحول الصراع فيما بعد من صراع مع السلطة لصراع على السلطة داخل المعارضة.


بالتوازي مع إدارة الكارثة الصحية نشهد إغلاق الحدود تماماً ما بين الدول المتطورة والدول الغير متطورة تكنولوجيا، هذا وإن كان مبرر سيكون له عواقب اجتماعية واقتصادية وسياسية على الضفتين لا نعرف مداها بعد لكنها غالباً ستبقى مرحلية. الغرب كان قبل الكارثة يعيش مرحلة انتقالية لما بعد الحقبة الصناعية. في الحقبة الصناعية احتاجت أوروبا السواعد الإفريقية لتشغيل مصانعها لكنها في الحقبة التكنولوجية الجديدة لم تعد بحاجة لسواعد بل لأدمغة، بالتالي هي تكافح الهجرة نحوها ونسمع من حين لآخر سياسيين يتحدثون عن انتقائية تتم ممارستها في سياسات الهجرة، هي في الحقيقة واقع اليوم. المراحل القادمة كل المهن التي تحتاج لسواعد بشرية ستلغى وكل المهن ستتطلب تأهيل فكري، ستحل محل اليد العاملة آلات ذكية لدرجة أننا بعد عشرات السنوات سنتوقف عن قيادة سياراتنا. وفي عالم ما بعد الكورونا المثالي لن يحتاج أبناء الجنوب للهجرة لدول الشمال.


في العمق لا بد أن نقرّ بأن سلّم القيم الذي قامت عليه الدول الغربية وأنجزت تطورها الفكري الإنساني قبل العلمي هو سلّم صنعه الإنسان، وأشير هنا لبيان حقوق الإنسان العالمي الذي أنتجته فكرياً الثورة الفرنسية وتأثّرت به الولايات المتحدة فيما بعد وهذا لم يصنعه رب بل عقل بشري، فلاسفة كروسو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم، هذا لأن إدارة الحياة فيما بيننا قانونيّاً مسألة لا بدّ من تحكيم المنطق البشري فيها ولسبب بسيط هو أنه ليس من مستوى إدراكنا العقل الإلهي. الكورونا المعجزة


العائق نحو التطوّر يبقى حالياً هذا الفارق الفكري بين المجتمعات البشرية، حتميا سيدرك الجميع بعد جهد من كافة التوجهات الفكرية المختلفة بأن الأمر بات يحتاج لتعاون بشري من نوع جديد، تعامل على مستوى عالمي، تطوير من نوع إيجابي المفهوم، فالعولمة تنصّ على تعاون حقيقي ما بين المجتمعات الغنية والمجتمعات الفقيرة. فالمسألة لن تعد مجرد الذهاب للمدرسة والحصول على شهادة، ستصبح المسألة برمجة العقل البشري. بشكل آخر، بينما في الدول النامية ما زلنا نجهد لنشرح للمجتمعات مثلا بأن المرأة إنسان متساوٍ مع الرجل ويحق لها أن تعمل وتقود سيارة وتفكر وتتخذ قراراتها المصيرية. في الدول المتطورة الحوار أصبح في مكان آخر تماما، يصعب فهمه على من ما زال يناقش بديهيات احترام الإنسانية.


هذا الواقع الجديد الذي ستحدثه الكورونا يبدو مريع إنسانيّاً، لكنه في الوقت ذاته معجزة للتطور البشري، ستسرع عملية تقارب البشر نحو ثقافة بشرية متوافقة على أولوية احترام حقوق الإنسان ومن يدري لربما ستؤدي هذه الكارثة لوعي جديد يتبعه تحديث للميثاق العالمي لحقوق الإنسان مع أدوات تنفيذية لتفعيله في كافة أرجاء الكرة الأرضية.


ليفانت - لمى الأتاسي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!