-
القديس فالنتاين الذي قتلته وسائل التواصل
كل هذه الفرص أمامنا.. ماذا نفعل؟
كل شيء متاح هنا.. تستطيع/ ين، التعارف، التحدث، واللقاء، بمن تختار/ين، وفي كل يوم، هناك احتمال للقاء جديد، فهذا العالم واسع، ومتنوع، ويسمح بالتجريب.
السوريون، الذين في المنافي خاصة، يعانون ويبوحون عبر المجموعات الخاصة، المغلقة، في وسائل التواصل، عن هذا التشوش العاطفي. أغلب القصص المطروحة في هذه المجموعات، تتحدث عن التعلق العاطفي، وعن عكسه تماماً، الهجران.
أركز على السوريين خاصة، لأنهم غادروا ثقافة صارت تتعرض حتى هناك، إلى التشويش، ثقافة الحب الواحد، أو حتى أسطورة الحب الأبدي، واكتشفوا الحياة بأن أوسع من أن تجري مع شخص واحد.
لحظة، أنا لا أتحدث عن التعددية، ولا عن ضرورة الهجران أو التغيير، أتحدث عن فكرة الفضاء الجديد، الذي أحدث الخلل بمفاهيم لم تكن أصلية في الأساس.
في أوربا مثلاً، أو في فرنسا تحديداً حيث أعيش، هناك ثقافة التيقن من العلاقة، حيث يتعارف الطرفان لوقت طويل قبل الارتباط، وقد يعيشان معاً، طيلة حياة أحدهما، دون ارتباط، لأن الارتباط يأخذ العلاقة إلى مكان ثابت، يصعب بعده العودة إلى الوراء، أو القبول بالمغامرات الموازية.
لا أقصد من كلامي، أن عدم الارتباط يترك أحد الطرفين حراً بالدخول في علاقات أخرى، ولكن، وبدقة أكثر، كي لا يساء فهم هذه العلاقات، فإنّ "المراجعة" متاحة غالباً في هذا النوع منها.
المراجعة إذن، ومحاولة التأكد من أن الطرف الآخر هو الشريك الذي يبحث عنه أحدنا، هو الذي طرأ على الثقافة العربية المعاصرة، والتي ساهم في تغييرها أمران: المنفى، ووسائل التواصل الاجتماعية.
ولأنني أنوي توسيع دائرة المشمولين بأثر الانفتاح الرقمي، وتعدد مصادر وفرص التعارف، على العلاقة الواحدة، وشبه صعوبة إقامة علاقة ثابتة لا ينتابها الشك، فإنني أفضل الكلام عن الحب ووسائل التواصل.
التجريب العاطفي وقلق الارتباط
من مزايا هذه الوسائل، أنها منحت النساء، إلى حد ما، الفرص ذاتها الممنوحة للرجال.
كان الرجال قبل مواقع التواصل، يتمتعون بحرية القيام بعلاقة موازية، بسبب قدرتهم على الخروج واللقاء بالآخرين، أما النساء اللواتي تتمتعن بحجم أقل من هذه الحرية، في المجتمعات العربية، المحافظة تحديداً، فكانت الواحدة منهن، تقبل على مضض، لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو ربما عاطفية، الارتباط. لكن وسائل التواصل سمحت للنساء المحافظات أيضاً، امتلاك فرص الرجال، وكذلك فرص النساء اللواتي تتمتعن بحجم أوسع من غيرهن، من حرية التصرف، فساعدت هذه الوسائل، النساء المحرومات من التعرف على رجال بطريقة واقعية، لاختيار أكثر حرية، عبر التعارف الافتراضي.
مهلاً، الأمر لا يتعلق أبداً بمديح هذه الوسائل، إنما بمحاولة تحديد أثرها على الاختيار العاطفي.
ثمة من سيلوم هذه الفرص الواسعة المتاحة، والتي تسببت بالتشوش العاطفي. لنأخذ مثالاً: رجل ما (يمكن تطبيق المثال على المرأة ضمن الانتباه للخصوصية العاطفية للمرأة)، يقع في الحب عبر وسائل التواصل، ويعيش العلاقة لفترة، لكنه في نفس الوقت، يمكنه التحدث إلى نساء أخريات، وغالباً سينتهي به الأمر، في حال لم تنتقل العلاقة إلى الجانب الواقعي ولقاء فيزيائي، إلى أن يعثر هذا الشخص، على حاجات عاطفية أخرى، لدى أخريات.
هذه الإتاحة لإمكانية التجريب، التي ليست لها أضرار اجتماعية، بمعنى أنها في منطقة الأمان، خاصة لدى النساء الأكثر تحفظاً على العلاقة الواقعية، والخوف من المجتمع، وتقاليد العائلة، وعقاب الأهل، يخلق الرغبة في الاكتشاف أكثر، وعدم الاكتفاء بنموذج واحد، والخوف من الارتباط، طالما ما تزال احتمالات العثور على الشريك الذي يحلمون به، ممكنة.
بين الحب الحقيقي ووهم الحب
هذا الانتقال المفاجئ والواسع من الحرمان من الآخر على أرض الواقع، ليصبح هذا الآخر موجوداً بسهولة في الواقع الموازي أو الافتراضي، خلق حجماً كبيراً من الحب المتوهم.
من هنا أيضاً ظهرت مراجعات البعض، ممن كان يعيش علاقة تقليدية، في الزمن الواقعي، البعيد عن الافتراضي، حين وجد نفسه في خضم العلاقات المنتشرة، ووجد نفسه وكأنه "متأخر" عن ركب التجريب، فتعرضت بعض تلك العلاقات إلى الاهتزاز، وحصل ما يمكن مناقشته بالخيانة الافتراضية. وهذا أمر صرنا نراه ونسمع عنه لا من تجارب تحدث حولنا فقط، بل راحت السينما العربية، وبعض الأعمال الأدبية، تطرح هذا النوع من العلاقة التي يمارسها أحد الشركاء، مع شخص آخر، يصبح وجوده موازياً لوجود الشريك الواقعي.
كما كانت صورة الغرب عند الكثير من الشرقيين، قائمة على التعددية والخيانات، انتقلت هذه الصورة إلى حياة الشرقيين أنفسهم، ولكن بشكل افتراضي: القبلة أو اللمسة أو مجرد الحديث والتعارف في عالم يحدث خلف شاشة الهاتف أو الكمبيوتر، أخذ مكانه اليوم.
كما تعلمنا باكراً في المدارس، بأن العلم سلاح ذو حدين، فإن كل شيء يمكن أن يكون مفيداً وضاراً إن لم يوظّفه المرء بعقلانية ونضج، من أجل مصالح البشرية.
ولأن لا أحد يمكنه أن يملي على أحد، أي تكمن مصلحته، أو مصلحة البشرية، فإن الكثيرين سوف يجربون ويستمتعون بالتجربة، ثم يصابون بالإحباط، لأن نسبة نجاح هذه العلاقات نادرة، وإن لم تكن معدومة، لأنه قائم على تصور يضعه أحدهم على الآخر، غالباً ما يكون هذا التصور قاصراً عن مقاربة صورة الآخر في الواقع، ناهيك عن حكايات التلفيق والكذب بل وانتحال الشخصية، الذي قد لا يخطر لشخص بريء، توقعها من الآخر.
ربما صارت التكنولوجيا الحديثة بثورتها المستمرة بلاء على عالم المشاعر والأحاسيس، وربما يتمنى القديس فالنتاين مثلاً، والذي يحتفل به العشاق في هذه الأيام، لو أن الحياة ترجع إلى ما قبل عصر الثورة الرقمية، حين يلتقي الناس على الأرض، وتعود لقصص الحب، رائحتها ونكهتها الأصلية، التي لا يمكن أن تكون هكذا، إلا على الأرض الحقيقية.
ليفانت - مها حسن
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!