الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الفشل المزمن للمراجعات ومأزق النهضة
عماد غليون

عماد غليون 

يعزى الفشل المزمن الذي تعيشه الدول والمجتمعات العربية لعجزها عن إجراء مراجعات نقدية جدية لنصوص ومرويات ومفاهيم قديمة ؛ وعدم القدرة على تطويرها رغم الدور السلبي الذي باتت تلعبه، في تكريس الجمود والتخلف وعدم مواكبة معايير التقدم والتنمية المعاصرة، وتعطيل الاندماج الفاعل في مسار الحضارة البشرية.


يدرك الباحثون صعوبة مساس موروثات مقدّسة تكرست في الوعي الجمعي منذ قرون، بفعل ربطها بشكل محكم بنصوص مقدسة من القرأن الكريم والسنة النبوية، ولذلك تصنّف أي عملية نقد ومراجعة، حتى لو كانت بنوايا إصلاحية بحتة، في خانة الإساءة والهدم للنصوص المقدّسة وتفسيراتها.


تدور نقاشات حادة حول فهم أسباب الغياب العربي عن ساحة الفعل الحضاري الإنساني منذ القرن الرابع الهجري وخلال كامل الألفية الميلادية الثانية، ويتم تحميل غياب العقل العربي أو بالأحرى تغييبه مسؤولية ذلك، إضافة لإقصاء العرب وإبعادهم عن سدة السلطة والسياسة.


إثر موجات الفتوح المنطلقة من الجزيرة العربية جرى احتكاك مباشر بين العرب والأمم والشعوب الأخرى، أدى للتعرض لمواجهات حضارية وفكرية، ولم يجد الخليفة عمر بن الخطاب والخلفاء من بعده أي حرج في استخدام النظم الإدارية والاقتصادية للامبراطوريات المندحرة، لكن المواجهات الفكرية العقائدية أنتجت علم الكلام والفلسفة الإسلامية وانبثاق حركة ترجمة واسعة وازدهار فكري وعلمي.


يرجع المؤرخون والباحثون العرب أسباب الأزمة العربية لحدثين مهمين.. الأول: خسارة العرب السلطة الفعلية في دولة الخلافة منذ مطلع العصر العباسي الثاني: تحريم الاشتغال بالفلسفة المنسوب للإمام الغزالي بداعي مواجهة الحركات الباطنية وموجات الهرطقة.


لا يكفي تبرير التخلف بخسارة العرب سدة السلطة في الخلافة، ويفترض ظهور حراك نهضوي اجتماعي في مواجهة ذلك، ولا يمكن مصادرة الفكر وحظر الإبداع عبر كتاب بتحريم الاشتغال بالفلسفة للإمام الغزالي أو غيره، وتظهر مراجعة التاريخ والوقائع العربية أن ذلك يعود لتحالف وثيق بين رجال الدين والسياسة، الذي نجح ولا يزال، في الهيمنة على حركة الشعوب ولجمها وإعاقة عملية التنمية، لكن المحيّر تفسير أسباب رضوخ الشعوب واستسلامها، وعدم قدرتها على التخلص من أعباء الاستعمار الداخلي.


هناك الكثير من الكتب والأبحاث تتناول تفسير واقع التخلف العربي، وعلاقة ذلك بالعقلية أو الشخصية العربية، حيث يرى ابن خلدون صعوبة انقياد العرب بعضهم لبعض، كونهم أبعد الناس عن الصنائع والعلوم، بينما يصف أوليري نظرة العربي للأشياء بأنها مادية وضيعة، ترتبط بحسب ما تنتج له من نفع، ويعتبر لامانس أن العربي نموذجاً للديمقراطية ولكن مع الانفلات وعدم الانضباط،  ويرى أحمد أمين أن العقلية العربية حالة طبيعية في التاريخ تتناسب مع حالة التطور الاجتماعي السائد مثل باقي الشعوب، واشتغل محمد عابد الجابري على مشروع ضخم لنقد العقل العربي، بينما ربط مالك بن نبي تخلف الشعوب بالقابلية للاستعمار، أما علي شريعتي فقد أطلق عليه القابلية للاستحمار، وأرجع مصطفى حجازي ذلك إلى سيكولوجية الإنسان المقهور والمهدور.


بدأ ظهور مشاريع نهضوية على أسس قومية مع نهايات القرن التاسع عشر، وتأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 على أسس إحيائية دينية، لتكون أساس معظم حركات الإسلام السياسي والجهادي التي تشكلت فيما بعد، فيما طرحت أحزاب وحركات سياسية برامج اشتراكية يسارية قومية لنهضة عربية.


جرت أهم وأشهر المراجعات العربية في مصر، حيث أحدث كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي زوبعة وصدمة ثقافية على خلفية نقض مرويات الشعر الجاهلي، واكتشاف أن معظمه منحول ومكتوب بعد ظهور الإسلام، باعتماد أسلوب الشك الديكارتي في دراسته من حيث الزمن والموضوع واللغة، وظهرت الكثير من الكتب والأبحاث للرد على طروحات الكتاب، وصلت حد الاتهام بالكفر والتجديف ومحاكمة طه حسين وإحراق كتبه، وكان يمكن تجنب بعض الشطط الذي ظهر في الكتاب، والاستفادة من منهجه المبتكر في البحث، وحال دون ذلك الخوف من تعميم البحث على مجمل التراث الذي قد يؤدي لنقض كافة المرويات التاريخية والدينية.


طرح قاسم أمين بجرأة قضية تحرير المرأة في وقت مبكر جداً نهاية القرن التاسع عشر، ولم تكن الظروف الاجتماعية والدينية وقتها مواتية أو تسمح بنشر كتب تحت عناوين مثل تحرير المرأة أو المرأة الجديدة، دعا فيها لتحرير المرأة وربط انحطاط الأمم وتوحشها بتدهور وضع المرأة فيها.


تأتي أهمية ما طرحه أمين اعتباره أن الصدام مع الثوابت ضرورة لا بد منها لإثارة الجدل المطلوب، ويؤدي إقلاق الثوابت لمراجعة وضع المرأة في المجتمع ويفتح الباب أمام المرأة الجديدة، ويمنع تعرضها للظلم في قضايا الزواج والطلاق والحجاب والعمل، ونقض أمين الصورة النمطية السيئة السلبية السائدة عن المرأة، بأنها ناقصة عقل ودين وضعيفة ولا تصلح للعمل، وكان من الطبيعي ظهور الكثير من الكتب في الرد على أمين، إضافة لتعرضه لحملة اتهامات بالعمالة للغرب والمروق من الدين.


تصدى علي عبد الرازق لمسألة الخلافة في ظرف تاريخي دقيق من البحث عن إعادة إحياء الخلافة العثمانية التي انهارت عام 1924، واعترض الشيخ على تلك المحاولات في كتابه الإسلام وأصول الحكم، وأوضح أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، كما نفى وجود نصوص قاطعة تؤكد وجوبها، وأثار موضوع الكتاب سيلاً من النقد وردود الأفعال العاصفة، ولا يزال يدور حوله جدل ونقاش واسع ويحظى بأهمية كبيرة رغم صدوره عام 1925.


ظهرت الكثير من المراجعات في صفوف الإسلاميين والتيارات الإسلامية، انصرفت لإحياء التراث والماضي وركزت على التشبث بالأصول والمرويات في سعي لإنتاج إسلام نقي يحاكي سيرة المسلمين الأوائل، وأدى ذلك لظهور الحركات السلفية الأصولية، لكن ركوب حركات الإسلام السياسي موجة الصحوة الإسلامية وتركيز جهودها لاستلام السلطة، دفع لظهور التيارات الجهادية التي تحولت تدريجياً بفعل الظروف والوقائع نحو التشدد والتطرف والإرهاب، وفشل مشاريع النهضة الإسلامية بشكل ذريع.


لا بد من اعتماد طرق ومناهج عصرية مبتكرة في إعادة قراءة وتدقيق مجمل التراث وتصحيحه، ومن ذلك دراسة تاريخ اللغة وتطور مدلولات مفرداتها ومعانيها وفهم ظروف استخدامها، وعرض النصوص ومتونها ورواتها لمحاكمة عقلية تأخذ بالاعتبار العوامل الاجتماعية والاقتصادية والحضارية في تطور المجتمع، ومع أهمية المشروع الذي أطلقه الدكتور محمد شحرور للقراءة المعاصرة، إلا أنه لا يمتلك إمكانيات القيام بمشروع ضخم منفرداً، ويمكن الاستفادة من منهج شحرور في البحث وتجنب مبالغاته في الاستخدام والتوظيف المسبق في بعض القضايا.


هل يفترض أن تمر مشاريع النهضة إجبارياً عبر مراجعات الماضي والتراث؟ وما دور العقلية العربية الماضوية في إعاقة التفاعل مع الحاضر والمستقبل.


تدور تساؤلات مستمرة عن الدور الذي لعبته النخب تاريخياً وأسباب فشلها في تثوير المجتمع وإحداث التأثير الاجتماعي المطلوب، وهل يعود ذلك لتعالي النخب في طروحاتها وطرق تعاملها مع الجمهور؟ مع تكرار نفس طروحاتها دون تطوير واعتماد مناهج عصرية في البحث.


ما يثير القلق أن واجهات المكتبات العربية ورفوف معارض الكتب لا تزال تحفل بشكل أساسي بكتب الشروح والهوامش والحواشي على حساب المراجعات والنقد، وهو ما يؤكد أن مشاريع النهضة لا زالت معاقة وغير مقبولة جماهيرياً.


لتجاوز فشل المراجعات والتغلب على مأزق النهضة لا بد من ثورة حقيقية تبدأ بالقضاء على تحالف السياسة والدين، وتظهر تجارب الدول الأوروبية أن الإصلاح السياسي الديني يشكل أرضية صلبة لا بد منها لقيام النهضة.


الفشل المزمن للمراجعات ومأزق النهضة الفشل المزمن للمراجعات ومأزق النهضة الفشل المزمن للمراجعات ومأزق النهضة 

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!