الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الغرب كماركة مسجلة
غسان المفلح
هل ما يزال مصطلح الغرب يعبّر عن واقع الحال، كما كان الوضع أيام الحرب الباردة بين ما سمي بالمعسكر الشرقي بزعامة السوفييت، والمعسكر الغربي بزعامة أمريكا أم أنّ الوضع تغير بعد انتصار الغرب وانهيار المعسكر الشرقي بوصفه قوة عسكرية مواجهة؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار بالطبع ما جرى من انضمام دول كثيرة كانت في المعسكر الشرقي للمعسكر الغربي ومؤسساته، كالناتو والاتحاد الأوروبي وشراكات أخرى مع أمريكا وغيرها من دول الغرب هذا. هل توسع المفهوم جغرافياً أم أنّ إعادة تموضع جديد للعالم، ومنها الغرب نفسه، بعد انتصاره؟

من الواضح أنّ أمريكا تحاول إعادة إنتاج العالم أمريكياً، وليس غربياً، كما كان الحال إبان الحرب الباردة. إن الأزمة الأخيرة بين فرنسا وأمريكا على خلفية صفقة الغواصات الأسترالية وغيرها من الخلافات التي تعصف بالغرب التقليدي. مثال آخر أكثر سطوعاً هو الخروج الأمريكي من أفغانستان بقرار وحيد اضطرت دول التحالف هناك لتنفيذه معها، توضح بلا شك أن أمريكا، لم تعد بوارد إعادة إنتاج الغرب إلا أمريكياً. حتى داخل أوروبا لم يعد الاتحاد الأوروبي سوى غطاء للجم الخلافات داخله حول العديد من القضايا، خاصة بعد أن انخرطت العديد من دول المعسكر الشرقي فيه، إضافة بالطبع لانخراط أمريكي غير مباشر وفاعل فيه. حيث بقيت روسيا محاصرة من الداخل بفعل بوتين كديكتاتور، ومن الخارج بفعل محاولة هذا الغرب الجديد وضعها في سياق دولة لا تملك سوى أسلحة نووية، حيث لا تنافس في أي مجال آخر.

فيما لو نظرنا إلى الصين مثلاً نجد الفارق كبيراً بينها وبين روسيا. الصين نموذج يحتاج للدرس من أجل الوقوف على ممكناته المستقبلية، دون الدخول في تفاصيل كثيرة. أمريكا جعلت من بوتين شرطياً في سوريا. ليس شرطياً وحسب، بل قاتل لخدمة أجندة هي إرادتها. هذا الأمر ما كان يمكن أن يحدث في أيام الحرب الباردة. الأوروبيون يحاولون التماسك بمواجهة أمريكا والصين والحلف الأنجلوسكسوني الجديد بين بريطانيا وأستراليا بزعامة أمريكا، ومسرحه المحيط الهادي وبحر الصين أيضاً وما يمكن أن يترتب عليه من تحالفات جديدة. حيث كانت الخطوة الأبرز في الشراكة البريطانية الأمريكية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

انطلاقاً من هذه اللوحة السريعة، يبدو بات من الواجب البحث في إعادة قراءة مصطلح الغرب. مع ذلك ما يزال الغرب بوصفه ماركة نفوذ عالمي مسجلة. هذا الكلام أكثر ما ينطبق في الحقيقة على أمريكا. أمريكا بوصفها ماركة مسجلة، كأي علامة تجارية تحصل على أرباحها بوصفها هذه العلامة بالذات، كأن تقول ماركة "مرسيدس" أو أي علامة تجارية أخرى، تحصل على عائد بحكم الاسم وليس بحكم المنتج فقط.

ما تزال أكثر دول الغرب تحوز على هذا الامتياز. مثلاً لا تحوز عليه الصين حتى اللحظة رغم إغراقها السوق العالمية بمنتجات في كافة الحقول. في مقالات سابقة حاولت تبيان مدى النفوذ الأمريكي في العالم، بأن أعطيت مثالاً أنّ أمريكا من القوة بحيث صرّحت أن هذه المنطقة في العالم هي أمريكية أو بحماية أمريكا، حتى تتحوّل إلى محمية لها. الموضوع نسبي بالطبع، لكنه واقع حال العالم اليوم. هذا المثال يعبر بشكل أو بآخر عن النفوذ الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً، إنه علامة تجارية تدر الأرباح على دولها على حساب دول أخرى. كأن تقول علامة "إيف سان لوران" أو "جاغوار الإنكليزية" أو آيفون أو سامسونج أو هوواي الصينية. هذه الأرباح لم يعد لها علاقة فقط بمنتجها فقط، بل باسمها. كذلك الحال بالنسبة للنفوذ الغربي والأمريكي. هذا النفوذ الذي تراكم على مدار قرون بالنسبة للغرب وعلى مدار قرن بالنسبة لأمريكا.

هذا النفوذ الذي ينتج ربحيته دون جهد أحياناً. سحر النفوذ هذا كسحر الاسم. دول تتسابق للحظوة عند هذا النفوذ حتى دون أن تطلب أمريكا ذلك مباشرة. هذه الدول التي تحرم سلطاتها شعبها من أجل أن تقتني هذا الاسم "إنّها محمية أمريكية" وتدفع لأمريكا ولدول الغرب، لأنّ أمريكا أكثر من تدرك ذلك وتلعب به، تجدها متواجدة في كل أصقاع المعمورة.

إنه سحر النفوذ. هذا النفوذ التي تحاول أمريكا الآن من خلاله أمركة العالم، التي ربما تقتضي في طية منه إغلاق مصطلح الغرب. فهل من المبكر الحديث عن وقف العمل بهذا المفهوم أم أنّ أمريكا ما تزال بحاجة لدول الغرب الأخرى من أجل أمركة العالم؟ تذكرت وأنا أكتب هذا المقال عندما اكتشفت المخابرات الألمانية أنّ أمريكا أوباما وضعت أجهزة تنصت في مكاتب ميركل، المستشارة الألمانية، وحدثت أزمة شبيهة بأزمة الغواصات الأسترالية وتم لفلفة الموضوع لاحقاً، كما تم لفلفته بين ماكرون وبايدن. إنّه سحر النفوذ والقوة.

غسان المفلح

ليفانت - غسان المفلح

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!