الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الثورة والدولة
كمال اللبواني

لا يمكن فهم الحدث السياسي الراهن من دون تأصيل المفاهيم والمصطلحات السياسية في سياق تكونها التاريخي، فما وصلت إليه حالة الدول والثورات العربية يدفعنا للتفكير مجددا في أساسيات مفهوم الدولة والثورة.


قبل ١٠ آلاف سنة أي قبل اكتشاف الزراعة، كان تنظيم المجتمعات البشرية يعتمد على الفيزيولوجيا الطبيعية للبشر وسلطة العرف والتقاليد القبلية، كتجمعات تقوم أساساً على علاقة القرابة ورابطة الدم، ومنها تطور مفهوم العرق ومفهوم القومية كهوية تتعلق به، لكن القومية لم تنتج الدولة بل العيش المشترك على الأرض هو من حتّم وجودها . باكتشاف الزراعة صارت الأرض الخصبة ومصادر المياه هي من تجبر الناس على الاستقرار و الاستيطان معا وبالتالي الخضوع المشترك لسلطة من نوع جديد، الزراعة هي من أسست لوجود المجتمع الحضري المستقر المختلف عن المجتمع القبلي (قصة هابيل وقابيل تجسد ذلك الصراع في تاريخ البشرية )، وجود المجتمع الحضري تطلّب وجود نوع جديد ومختلف من السلطة تضبط التعايش داخل هذا التجمع المفتوح، فالعيش على الأرض وتشاركها هو أساس تعريف الشعب وليس القومية بمعني الهوية التي أصبحت ناتج التعايش المشترك الطويل ولم تعد ناتج قرابة الدم. فالتاريخ المشترك هو من يحدد هوية الشعب والذي لا يمكن أن يستمر من دون استقرار سلطة تضمن السلم الاجتماعي، طبعاً المشروط بالوصايا العشر التي هي أساس نظام الحياة الاجتماعية الحضرية، ( هنا لابد من الإشارة إلى أن فكرة قيام الدولة على الهوية القومية تتسبب في نزاعات قومية لا حل لها بسبب تداخل القوميات وتشاركها الأرض في الشرق الأوسط ).




فالدولة نشأت عندما وجدت سلطة سياسية تمتلك قوة تنفيذية تحكم وتضبط شعباً يعيش على أرض معينة، وهذا هو تعريفها ( أرض، شعب ، سلطة )، وظائف السلطة هي ضمان السلم الداخلي (القانون)، والنظام العام (إدارة وتقاسم الثروة والإنتاج)، والدفاع الخارجي ( الجيش )، ووجود السلطة كناتج مكمل للوجود الحضري هو ما أعطاه تمايزه النوعي الجديد المتمثل في قيام الدول، لذلك كان الأقدر على تجميع القوة العسكرية يصبح هو الحاكم (بقوته)، وهو عنوان هذه الدولة التي تحولت لمملكة شخصية له، ولضمان استمرار الدولة يجب ضمان استمرار السلطة فنشأ النظام الملكي الوراثي المطلق، ( لذلك لم يشكل العرب دولة واستمروا بالعرف حتى ظهور الإسلام كدين حولهم لدولة، كما بقيت البوادي والقبائل على علاقة شكلية بالدولة حتى الآن، بينما نشأت المسيحية كدين في دولة موجودة أصلا وهو الطبيعي في التاريخ كما سنشرح ) .




ولكي تعيش السلطة يجب اقتطاع قسم من منتجات المواطنين، والذي لم يكن ممكناً لولا تطور أدوات إنتاجهم بحيث يحقق فائضا عن متطلبات حياتهم، وبمقدار ما كانت السلطة حاجة للوجود الحضري بمقدار ما أصبحت قوة فوق المجتمع متطفلة عليه، أصبحت الدولة أداة قهر وإجبار اضطرت المجتمعات الحضرية لصناعتها بسبب كون منافع الحياة المشتركة وما تقدمه من فوائد هو أكبر بكثير من مساوئ هذا السلطة وتكلفتها، المجتمع الحضري الجديد يستطيع توفير قدر أكبر من الفائض عن ضرورات الحياة ، وتوظيفه ليعيش به بشر مكلفون بمهام اجتماعية وسياسية وعسكرية وخدمية متخصصة. إنتاج هذا الفائض هو أساس مبدأ الملكية الخاصة والعبودية أيضا، التي نشأت عندما صار بإمكان الإنسان أن ينتج ما يفيض عن حاجته للبقاء على قيد الحياة، فسلطة الدولة تقتطع من عمل الشعب ما تعيش هي به، أي تستعبد الشعب عمليا، وهذا ما جعل العلاقة بين المجتمع والسلطة علاقة تناحرية بدرجة ما أيضا ( حاجة وعدو معا )، فالسلطة تميل للطغيان كسلطة قوة فوق المجتمع، والشعب يريد حصرها بدورها الاجتماعي القانوني الضروري لوجوده؛ هذا الصراع استمر وسيستمر عبر التاريخ، والهدف الذي يرمي إليه المجتمع ليس إلغاء الدولة بل تدجينها وإجبارها على القيام بوظيفتها ومنعها من التغول فيه، والذي يدفعه أحيانا للتمرد والثورة عليها بما تحمله تلك الثورة من مخاطر وتحدثه من دمار للدولة ذاتها والتي يسبب غيابها المؤقت خراباً اجتماعياً كبيراً ونزاعات داخلية هائلة كانت مستترة بخيمة سلطة الدولة، وهذا ما يجعل الحرية بمفهومها العام، تحمل معنى التحرر من الدولة ومن كل سلطة، لأن كل سلطة تعني العبودية بشكل ما،




ولكي تستقر الدول ولا تكون عرضة للسقوط بشكل دوري ( كما شرح ابن خلدون : العصبية ، الإزدهار ، الاسترخاء والفساد ) كان لا بد من تقييدها ودعم استمرارها، وأهم أدوات ذلك هو الدين الذي ألزم السلطة والمجتمع على احترام قيم ومعايير أخلاقية مستمدة أصلا من قانون الحياة المجتمعية الإنساني ذاته : فقد تطور الدين وتغير دوره كثيرا بعد قيام الدولة العبودية، حيث تم استخدام سلطة المقدس الديني لمقارعة سلطة الحاكم المطلقة وتدجينها ( وضع قيما عامة ينضبط بها الجميع بغض النظر عن موقعه، فنزع صفة القداسة عن السلطة البشرية وأعطاها لصاحب السلطة الكونية، وهذا هو أهم دور سياسي للدين ) فكما أن الوجود المجتمعي له نظام وسيد فإن الكون الذي نعيش به له نظام وسيد أيضا ( فتطور مفهوم الإله من طوطم وصنم قبلي، أو من رمز يرمز لقوى الطبيعة، ليصبح ملكا حاكما للوجود يحمل كل صفات الملك من عرش وجند وقدرة وحساب وجزاء وأمر ونهي … حتى أنه أرسل رسالاته للبشر بلغتهم وعبر أشخاص منهم )، الديانات قامت بثوراتها السياسية لتقاوم تغول ووحشية الدولة التي صارت حاجة لا بد منها لأي تجمع حضري، فالدين هو ما دان له الناس طوعا، ومنه اسم المدينة التي تدين لنظام وسلطة، والمدنية عكس الوحشية، لا يمكن لها أن تتوسع وتستقر بسلطة الملك المتغطرس وحده، بل بمساعدة سلطة القيم التي تشكل أساس الدين، هنا أصبح الدين سلطة معنوية فوق سلطة الدولة لكنها لا تملك قوة تنفيذية، سلطتها تمر عبر الإيمان والضمير المتكون بكل فرد، محاولتها لامتلاك قوة تنفيذية يحولها فورا لسلطة دنيوية تشبه سلطة الملك وتنازعها، فوظيفتها هي ضبط الضمائر، ومكانها داخل كل إنسان، لكن لا يمكن الاعتماد عليها دوما. ولا بد من دور تقوم به سلطة البشر التي نزعت عنها القداسة .




المقدس تعريفا هو القناعة التي يجمع الناس عليها بشكل شبه مطلق ( إن كانت مفهوما عن خالق أو نظاما قيميا أو طوطم وصنم أو نموذج ملابس ) وتدنيسها والكفر بها هو خروج مستهجن عن هذا الإجماع ، فالقداسة هي أيضا عكس الحرية . هنا صار للوجود الاجتماعي ثلاث مكونات الشعب الخاضع لسلطتين السلطة السياسية وسلطة الدين أو لنقل سلطة القيم التي تحولت لمقدس عندما وجد مفهوم الإله الحاكم الذي يحاسب عليها ، فالقيم وحدها لا تكفي لضبط السلوك بل يجب رفعها لدرج التقديس الديني بجعلها نظاما يريده مالك الكون الحي القيوم ، ، لذلك هناك دوما درجة من التناقض والتشارك بين سلطة الدولة وسلطة الدين، يجعل كل منهما يسعى لاحتواء الآخر ، وأكبر الإمبراطوريات في التاريخ لم تستقر قبل اعتمادها على الدين أو مصالحته .



ماركس في كتابه المادية التاريخية أعاد النظر بكل هذه المفاهيم وقلب الفلسفة السياسية رأسا على عقب، اعتبر أساس الشر هو الملكية الخاصة التي نشأت عند تحول المجتمع من البداوة للاستقرار ( مع اكتشاف الزراعة ) وانتاج الفائض عن الحاجة، مع أنها هي أساس المدنية، وأن الدولة أداة قهر مع أنها هي أداة تنظيم وضبط يحتاجها المجتمع خلقتها ضرورات الحياة الحضرية، وأنها أداة بيد طبقة لسلب طبقة أخرى واستعبادها، مع أن اقتطاعها لقسم من فائض الانتاج يهيئ للمزيد من الاستقرار ويقدم خدمات كبيرة لا يمكن وجودها بدون مجتمع منظم سياسيا وقانونيا، واعتبرت الماركسية أن الدين أفيون يستخدم لتخدير الشعوب وليس أداة لضبط سلوك الدولة ودعم سلطة القانون والقيم، لذلك دعت للثورة وإزالتهم جميعا، فكانت ثورتها مضادة للوجود الحضري بكل أشكاله وليس فقط ضد طغيان السلطة. وهي مثال نموذجي عن الثورات في القرن الماضي .




أهم ثورة في صعيد تطوير النظام السياسي هي الثورة الفرنسية التي ألغت الحق الإلهي المقدس للملك، واستغنت عن دور الدين في تدجين الدولة أيضا، وهيأت لنظام جديد يجعل قيام السلطات وسلوكها مرتبطا بموافقة الشعب بآلية لم تكن متوفرة قبل تطور الحضارة والحياة الاجتماعية الحديثة بعد الثورة الصناعية التي أعطت للدولة مهمات وأدوات جديدة تفوق كثيرا مهمات الدولة القديمة وأدواتها .




في الدول الحديثة في القرن العشرين وبدل قبول دعوة ماركس للعودة لما قبل التاريخ، استعاضوا عن الدين بالديموقراطية، وطوروا النظم السياسية للدولة بحيث وضعوا ضوابط على قيام وممارسة السلطات، وهم بتطويرهم النظام السياسي الديموقراطي، ألغوا (بذات الوقت) الوظيفة الأهم سياسيا للدين، فالملك لم يعد يحتاج مباركة البابا ورعاية الكنسية، لأنه صار مقيدا بدستور، ومجلس ينتخبه الشعب، ورقابة الضمير والدين لم تعد مهمة مع تطور أدوات المراقبة والمعاقبة التي تمتلكها الدولة، وهنا نفهم العداء الضمني الراسخ بين الديموقراطية والدين، يضاف إليه عداء الدين ( كسلطة ) لفكرة الحرية ذاتها. فشعار الحرية الذي ترفعه الثورات المعاصرة يعني ضمنا التخلص من العبودية للدولة وللدين بطريقة غير مباشرة، وهنا تصبح عملية شيطنة ثورات الحرية عملية سهلة جدا، يتعاون عليها الدين والسلطة معا والذين انتقلوا للصف الرجعي المحافظ الرافض للتغير. لتصبح الثورات بدورها عبارة عن قوة تخريب وتدمير عندما تكتفي بشعار الحرية ولا تبحث عن إقامة سلطة بديلة تخضع لها، أي عندما تفتقد للرؤية والهدف والأدوات والمؤسسات الناظمة التي تعيد بناء الدولة ( التي هي بمعنى ما عبارة عن سجن )، هنا يتدخل الدين ليطرح نفسه كسلطة بديلة وسجن جميل، ساعيا لتحويل الثورة من ثورة تحرر لثورة دينية، وهو ما يعني عمليا تقويض فرصة قيام الدولة الديموقراطية، كأفضل تطبيق لشعار الحرية تسمح به ظروف استمرار الحياة الحضرية تحت سلطة الدولة الحديثة .




عندنا الدولة بقيت محكومة بسلطة المتغلب عبر التاريخ ، نهاية باستخدام مؤسسة الجيش للإستيلاء على السلطة، ولم يتمكن الدين عمليا من أنسنة هذه الدولة إلا نادرا مع أنه موجود وبقوة عبر التاريخ، لكن السلطة العسكرية الجديدة التي حكمت الدول الحديثة، تحررت أيضا من الدين وأطلقت وحشيتها بشعارات العلمانية، وهذا ما جعل الدين يقف في صفوف الثورة عليها، وهو ما سهل تحول الربيع العربي من ثورة ديموقراطية لثورة دينية، بما يتضمنه من تناقض بينهما، يصعب تجاوزه قبل تغيّر مفاهيم الدين التاريخية عن السلطة والدولة وطريقة انتاج الشرعية، ونقلها من شرعية تعطيها الهيئات الدينية للسلطات، لشرعية تعطيها لها الهيئات التمثيلية المنتخبة من الشعب، أي قبل القيام بإصلاح جدي في فهم وتوظيف الدين سياسيا، بحيث يتناسب مع الديموقراطية المعززة بالإيمان بالقيم، حيث لا توجد مصادر مهمة لهذه القيم غير الدين، وهنا تظهر مخاطر الطرح العلماني المضاد للدين ودوره، وأيضا مخاطر تحول الدين لسلطة سياسية زمنية وليس روحية، عندما يتم المزج بين سلطة الدين وبين سلطة الدولة، لتقوم سلطة الدولة الدينية بدور سلطة الضمير، وتتحول لطاغية جديد يحاسب على الضمائر والقناعات والنوايا ( وهو ما اختص به الحساب الأخروي )، هذا هو أحد أسباب فشل ثورات الربيع العربي، أقصد العجز عن حسم ذلك الخلاف بين الدين والديموقراطية، وانقسامها لثورتين متصارعتين ( علمانية ، ودينية ) متناقضتين وجوديا. فكل طرف في هذا الصراع يجد في نظم الاستبداد حليفا له للانتصار على الآخر، فانتصر الاستبداد مرحليا طالما بقي التناقض الجوهري قائما بين الدين والعلمانية، وليس بين العلمانية والدين من طرف وبين الاستبداد من طرف آخر .




وهكذا تأخر انتصار الديموقراطية الذي هو حتمي لأنه يقع في سياق التطور الحضاري، لكنه ينتظر إزالة أو حسم الصراع بين الديموقراطية والدين في الثقافة الفعالة التي تحرك الجماهير. وهنا لا يكمن السوآل في من سينتصر، بل في بقاء الدين الإسلامي فعالا في الحياة الحضرية الحديثة أم زواله منها كما حدث للمسيحية في الغرب.


د.كمال اللبواني - كاتب وسياسي سوري

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!