-
سوريا: قطعُ الأعناق والأرزاق ولا قطع دروب السفر
في هذا الوقت انقسم الشارعُ العربي بين مهنّئ ومعارض، حيث عبّر الكثيرون عن تضامنهم مع الأفغان، فيما أشاد البعض الآخر بانتصار طالبان ووصفوه "بانتصار المسلمين على الغرب"، معلّلين أنّ طالبان ليست كتنظيم الدولة الإسلامية الذي أساء للإسلام بممارساته الوحشية.
في المقابل يرى مراقبون أنّ التطورات الأخيرة في أفغانستان "ستنعكس آلياً على المنطقة العربية"، وستعيد الثقة إلى التنظيمات الإرهابية والأصولية العنيفة في جميع أنحاء العالم، والتي من المؤكد تراقب المستجدات في أفغانستان، وترى انتصار طالبان على أنه تشجيعٌ مباشر لها، ما سيزيد نشاط تنظيم الدولة الإسلامية، خاصة في سوريا والعراق. الجدير ذكره أنّ تصاعد موجة الجهاديين المتشدّدين ساهم في تقليل الضغط عن النظام السوري، الذي أفرج عن أخطر المجرمين من السجون بداية الأزمة السورية، لخلقِ حالةٍ ممنهجة من الاضطرابات كذلك الرعب، التي سيتصدى لها بقصدِ استعادةِ شرعيته عبر ادعائه مكافحة الإرهاب. وهكذا وفي أعقاب الفظائع التي ارتكبها الجهاديون، فإنّ الأسد لم يعُدْ العدوّ الأول للدول الغربية، باعتباره الضامن الوحيد للاستقرار الإقليمي والدولي معاً.
واليوم، وفيما يؤكد وزيرُ الخارجية السوري "فيصل المقداد"، أنّ الولايات المتحدة ملزمة بسحب قواتها من بلاده، وإلا سينتهي بها الأمر كما حدث في أفغانستان، تزدحم مباني الهجرة والجوازات في كافة مناطق سيطرة النظام بطوابير السوريين الراغبين بالحصول على جواز سفر لمغادرة البلاد. على صعيدٍ آخر نشرت إدارة مطار دمشق الدولي توضيحاً لصورةٍ تمّ تداولها، تُظهر ازدحاماً شديداً للمسافرين في المطار، لتؤكد أنّ صورة المغادرين قديمة وتعود إلى ما قبل عام 2011. ورغم الإنكار المتعمد من قبل إدارة المطار لحركةِ الهجرة الكثيفة، الواقعية بطبيعة الحال، ما تزال شركة "أجنحة الشام" تسيّر رحلات جوية متتابعة، لتستعيد مشاهد أكبر هجرة عرفتها سوريا، والتي بدأت في العام 2013، هرباً من الحرب الطاحنة، واضعة ملايين السوريين على دروب المجهول، بعدما باعوا بيوتهم وأراضيهم، كذلك أحلامهم في وطنٍ حرّ كريم. يجازفون رغم الصعوبات العديدة، وأهمها الحدود المغلقة من جميع الجهات، والتي حوّلت البلاد إلى سجنٍ خانقٍ كبير. في هذا الوقت أكد مراقبون أنّ ما يجري ليس عملية "تطفيشٍ" للسوريين وحثّهم المستمرّ على مغادرة البلاد بقدر ما هي إعادة ترتيب لأولويات النظام في المنطقة.
ولا يخفى على أحد أنّ الناس كانوا يهربون في البداية بتأثير إرهاب تنظيم "الدولة الإسلامية"، مع ذلك كان من الممكن للمرء أن يعيش تحت حكمها طالما كان مسلماً ملتزماً بالقواعد والأحكام المفروضة، ويقبل طائعاً أو مجبراً بأن يدفعَ حريته الشخصية ثمناً للخبز بسعرٍ مستقر. في المقابل تركزت الموجة الأكبر للهروب في المناطق التي تحولت إلى جبهاتٍ ملتهبة، وكثير ممن لم يستطع الفرار خارج البلاد، لجأ إما إلى المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سوريا، أو -من المفارقة بمكان- إلى الأراضي الخاضعة للنظام السوري، حيث السكوت والتواري عن الأنظار يمثِّلان أهم استراتيجيات البقاء على قيد الحياة في هذه المناطق.
وبعد عشر سنوات على المذبحة السورية، الواقع يزداد سوءاً وتأزماً ليس بالنسبة للنازحين والمهجّرين فقط، بل لفريق الموالين أيضاً، الذين يعيشون مخاوف وجودية جديدة تأتت عن تمسكهم بدعم الأسد لتثبيت شرعيته الوهمية. لا شكّ اليوم يؤمنون، وبشكل مطلق، أنَّهم مهدَّدون حتّى من قبل النظام نفسه، بعدما اكتشفوا متأخرين أنهم تعرضوا لعملية خداعٍ تاريخي من قبل نظامٍ براغماتي لم يكتفِ بسلبِ البلاد ونهبها، أو تجويع شعبه ثم تركيعه وتهجيره إلى المنافي، وجعله واحداً من أفقر شعوب العالم على الإطلاق، كذلك حرمانه من أبسط حقوقه ومعاملته كقطيع في مزرعته الخاصة. بل زاد على ذلك قهراً وذلاً بزجّ أبنائهم في جبهات القتال ليموتوا بالمجان خدمة لبقاء السفلة واللصوص والقتلة الذين يبيعون الشعب الشعارات الكاذبة التضليلية البراقة.
دراسةٌ استقصائية صادرة عن مركز السياسات وبحوث العمليات (OPC)، أُنجزت خلال أيار المنصرم من هذا العام، أظهرت رغبةً عالية للمشاركين فيها في مغادرة البلاد بالسرعة القصوى، مبينة العوامل التي تجعلهم راغبين في الهجرة، أهمها البحث عن حياةٍ لائقة من خلال فرص عملٍ وتعليمٍ أفضل، كذلك تفادي الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية. وكانت عبارة "سئمت العيش في سوريا" دون الاستفاضة في شرح حيثياتها دافعاً أساسياً لبعض المستجيبين للدراسة. في هذا الوقت حذّر وكيلُ الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، من أنّ الاحتياجات الإنسانية لملايين السوريين وصلت إلى أعلى مستوياتٍ لها منذ بداية الحرب، لهذا السبب يفرّون من وحشية النظام السوري الذي لا يتوانى أبداً عن قطع الأرزاق باعتبارها استراتيجية موازية لقطع الرؤوس عند التنظيمات الإرهابية المتطرفة.
ويزيد الطينَ بلّة الانفصامُ السياسي الذي اتضح جلياً في مؤتمر إعادة اللاجئين الذي أقيم في 26 يوليو/ تموز الماضي، في دمشق، وبمشاركةٍ روسية، كذلك تصريحاتُ "بشار الأسد" الذي أكد أنّ البلاد تواجه قضية مركبة من ثلاثة عناصر مترابطة: مئات المليارات المهدورة جرّاء بنية تحتية مدمرة بُنيت خلال عقود، إرهاب ما زال يعبث في بعض المناطق، "ملايين" اللاجئين الراغبين في العودة. كما أكد على حقيقةِ أنّ بعض الدول قامت باستغلال اللاجئين أبشع استغلال، من خلال تحويل قضيتهم الإنسانية إلى ورقةٍ سياسية للمساومة. في مواجهة تلك الادعاءات شدّد "جوزيب بوريل" وزير خارجية التكتل الأوروبي على أنّ "الشروط الحالية في سوريا لا تشجع على الترويج لعودةٍ طوعية على نطاق واسع ضمن ظروف أمنية وكرامة تتماشى مع القانون الدولي". واستدلّ بوريل بعمليات العودة "المحدودة" في فتراتٍ متقطعة كدليلٍ يعكس العقبات الجمّة والتهديدات أمام عودة اللاجئين والنازحين، وبينها التجنيد الإجباري والاعتقال العشوائي والاختفاء القسري.
في سياقٍ موازٍ انطلقت حملةٌ في الخارج جعلت وسم "العودةتبدأبرحيل_الأسد" عنواناً لها، وعبّر المشاركون فيها عن رفضهم التام لمؤتمر اللاجئين الذي تنظمه روسيا في دمشق، بهدف إعادة الشرعية الساقطة لنظام الأسد، ومحاولة إنعاشه من جديد. بينما آخر تقارير المفوضية السامية للاجئين تحدّثت على وضعٍ لا يطاق في سوريا بسبب جرائم النظام السوري، لم تسلم منها حتّى المنظمات التي تعمل في مجال الإعانة والتي تعرضت لضغوطٍ عديدة وغادرت البلد، كما أكدت أنّ الدعوة المنبثقة عن نظامٍ معروف بسجله الدامي على مستوى حقوق الإنسان وجرائم الحرب هي محاولة رخيصة ومفضوحة من أجل إظهار نفسه على أنه نظام شرعي قائم، بينما ليس هناك شخص مصون من الملاحقة أو القتل أو الاختطاف والاعتقال، من طرف الجماعات المتطرفة، أو من طرف النظام السوري على وجه الخصوص.
ليفانت - عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!