الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
هل نشهد نهاية الأحزاب العقائدية
جاد الله الجباعي

لقد أربكت الثورات الشبابية بزخمها الثوري وجدّة شعاراتها وسرعة انتشارها جميع البنى والمنظومات السياسية ذات الأيديولوجيات العقائدية الراسخة وأشكلت على أنساقها الفكرية المغلقة: الماركسية والدينية والقومية، على السواء.


فتباينت مواقفها الأولية وردود أفعالها تجاه تلك الثورات التي لم تخرج من تحت عباءتها ولم تقم وزناً لشعاراتها الأيديولوجية التي لم تعتد سماع غيرها. وتراوحت تلك المواقف ما بين التخوين والاتهام بالعمالة للسفارات الأجنبية وفق نظرية المؤامرة العزيزة على قلوب بعضها من المستأثرين بالسطوة والثروة من أحزاب السلطة، وبين الإحجام والتردد والترقب حتى تتكشف موازين القوى المحلية وردود الفعل الدولية حولها من قبل البعض الآخر من أحزاب المعارضة، وخاصة من المؤمنين اللذين يجيدون اقتناص المنافع ولا يلدغون من الجحر نفسه مرتين.


لكن ومع اشتداد الاحتجاجات الشعبية وتوسع رقعتها الجغرافية وتحديها للعنف العاري الذي قوبلت به من قبل أجهزة السلطات الشمولية الأمنية والمليشيات الطائفية والحزبية العقائدية برز تناقض آخر في مواقف الأحزاب العقائدية من تلك الثورات لا يقل أهمية عن الأول وهو التباين بين مواقف قادتها وزعاماتها التاريخية وآراء منظريها السلبية المناهضة للتغيير الذي سيطالها بكل حال، مع مواقف العديد من كوادرها الحزبية أو مناصريها السابقين ممن انخرطوا في المظاهرات والاحتجاجات الشعبية بصفاتهم الفردية بداية وليس الحزبية، الأمر الذي سيترك أثراً كبيراً على التماسك التنظيمي لهذه الأحزاب وعلى قاعدتها الجماهيرية وأيديولوجياتها الثورية التي تستمد شرعيتها السياسية منها، وعلى فاعليتها الاجتماعية والسياسية فيما بعد في معظم الدول التي طالها المد الثوري، سواء تلك التي أنجزت النقلة النوعية الأولى في عملية التحول بشكل خاطف  كما في تونس ومصر أو السودان لاحقاً، أو التي تعثّر فيها إنجاز تلك النقلة وانفتحت على دوامة العنف والتلاعب الخارجي بمساراته كما في ليبيا وسورية واليمن، أو الدول التي جاء وقع التغيير السياسي فيها بشكل هادئ نسبياً كما في المغرب والجزائر وغيرها. ولما كان حال تلك الأحزاب على اختلاف مسمياتها متشابهاً إلى حد بعيد في جميع تلك الدول، ومع بعض التعميم المجازف يبقي السؤال مشروعاً حول دور ومستقبل التنظيمات العقائدية في عملية التحول الديمقراطي في بلدان "الربيع العربي" مع تبدل المشهد السياسي وبروز الفاعل الاجتماعي الجديد المتمثل بحركات الاحتجاج الشعبي ذات الطابع الشبابي المنفتح والمتمرد على الأطر السياسية والاجتماعية التقليدية، والمتخارج فكرياً مع أيديولوجياتها وعقائدها المغلقة.


فهل نشهد نهاية الأحزاب السياسية العقائدية في سياق عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية أمام منافسة الناشئ الجديد بحمولته الفكرية المختلفة ويتسع المجال لتشكيل مؤسسات سياسية حديثة فكراً وتنظيماً تتوافق مع منطق العقل والتاريخ وتستجيب لمقتضيات التغيير الديمقراطي وإرادة الشعوب الحرة، أم أن تلك الأحزاب مازالت  قادرة على الخروج من مأزقها الفكري والسياسي بالتكيف والتأقلم والاستجابة البراغماتية لمقتضيات الواقع الجديد؟ 


تحتاج الإجابة على هذا التساؤل بحثاً معمقاً لكل حالة وأكثر إنصافاً مما في هذا التعميم، لا يتسع له المجال  في هامش المقالة، لذا سنركز على عاملين اثنين يؤشران إلى بداية أفول التنظيمات العقائدية في بلدان "الربيع العربي": يتجلى العامل الأول في تآكل الهياكل التنظيمية لتلك الأحزاب، ويتمثل العامل الثاني في بداية انهيار أيديولوجيات ما فوق الدولة الوطنية كالأيديولوجيا الأممية أو القومية العربية أو الإسلامية.


  لا يعتبر انشقاق الكوادر والتشظي التنظيمي عاملاً قليل الأهمية في بنية أحزاب تأسست على نمط الحزب الماركسي اللينيني أو النمط القومي أو الديني الفاشي وعلى مبدأ المركزية الشديدة والانضباط الحديدي المراقب والولاء للقيادة المركزية أو القائد الكاريزمي أو المرشد العام بحيث لا ينطبق عليها تصنيف ماكس فيبر أو غيره للأحزاب السياسية إلا مع كثير من التعميم والمرونة.


إنما هو مؤشر على تآكل الأسس التي انبنت عليها هرمية تلك التنظيمات وحشدت عليها جماهيرها وانتهاء صلاحيتها التاريخية، كما يكشف هذا التشظي السريع أن سر بقاء هذه الأحزاب وتماسكها حتى اليوم لم يكن بفعل حيويتها الفكرية أو فاعليتها السياسية والاجتماعية أو دورها الوطني وشرعيتها الجماهيرية، إنما بفعل غياب المنافس السياسي الحقيقي لها من جهة، ومن عدم اختبار تلك العوامل في أي استحقاق سياسي ديمقراطي حقيقي يتيح المشاركة والمنافسة السياسية في انتخابات برلمانية أو رئاسية على أساس حزبي في بلدان "الحزب الواحد" أو "الحزب القائد" من جهة ثانية، ومن دور الديكتاتوريات العسكرية الحاكمة في الإبقاء على هياكل هذه الأحزاب وتوظيفها في تزوير عملياتها الانتخابية الشكلية لاستكمال شرعيتها السياسية والشعبية المنقوصة من خلالها من جهة ثالثة. وقد لا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة للتنظيمات التي عاشت على هوامش السلطة أو في المعارضة (الأحزاب الدينية الطائفية كحركة الأخوان المسلمين وتفرعاتها الحزبية ومثيلاتها الشيعية، وبعض الأحزاب الشيوعية) التي طالها التشظي والانشقاق مع أنها لم تكن بالنسبة لأعضائها أحزاباً سياسية ذات طموح سياسي للوصول إلى السلطة فحسب، بل تحولت مع الزمن وبحكم انغلاقها على ذاتها وما عانته من الملاحقات الأمنية والقمع في ظل الحكم الشمولي إلى مجتمعات بديلة بالنسبة لأعضائها.


فعندما يحصل الانشقاق والتشظي التنظيمي في هياكلها لا يقف الأمر عند حدود حرية الاختلاف في الرأي السياسي في بيئة لا تعير اهتماماً للديمقراطية حتى وإن وردت في شعاراتها، بل يتعداه إلى التشظي الاجتماعي، وهذا عامل أكثر خطورة يفضي إلى التساؤل حول مدى التهتك في نسيج المجتمعات التي انفتحت على العنف، ومدى التذرر الاجتماعي الذي أوصلتها إليه السلطات الاستبدادية والتوتاليتاريا العسكرية التي خرجت من رحم الأحزاب العقائدية ونشأت في حضانتها، وعن مدى قدرة هذه المجتمعات التي باتت تعيش في حالة حرب الكل على الكل حسب تعبير"هوبز"على إعادة بناء العقد الاجتماعي وبناء الدولة الوطنية التي لم تكن يوماً هدفاً لأي من الأحزاب العقائدية بقدر ما اعتبرتها عائقاً استعمارياً أمام تحقيق دولة الوحدة القومية أو دولة الأمة الإسلامية المتخيلة أو غيرها، وعن دور الأحزاب العقائدية في هذا البناء. ولا يخفى على المراقب أن يلحظ خفوت النبرة الأيديولوجية السابقة في خطاب الأحزاب العقائدية وسلطاتها بعدما تعرضت له من هزات سياسية في السنوات الأخيرة واستبدالها بخطاب واقعي براغماتي حول ضرورة بناء "الدولة المدنية" وقبول المشاركة السياسية والديمقراطية الإجرائية كما حصل في تونس ومصر على سبيل المثال، في حين أصبح سقف المطالب في الدول المدمرة هو "الحفاظ على مؤسسات الدولة" في دول لم يكن فيها أو لم يعد فيها مؤسسات، و"وحدة سوريا أرضاً وشعباً" أو وحدة شرق ليبيا وغربها...، بعدما حُرقت بلدانها و نُهبت ثرواتها واسُتقدمت إليها جيوش العالم ومرتزقتها ومليشياتها وتشتت شعوبها في كل بقاع الأرض، وخرج قرارها السياسي وتقرير مصيرها القريب من أيدي شعوبها. فهل لدى الأحزاب العقائدية وجيوشها العقائدية ما تفعله بعد؟؟


جادالله الجباعي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!