الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
هل تنفع الكتابة أوان الكارثة؟
ماجد ع محمد

ماجد ع محمد - كاتب سوري




كما أن درهم وقاية في مجال الصحة البدنية أهم من قنطار علاج، نتصور بأن الكتابة عن الكوارث ومخاطرها يبنغي أن تكون قبل الحدث وليس بعده، فبعد وقوع الحدث لا أهمية كبرى لأغلب المكتوبات والمنشورات، بما أن الفعل وحده هو المطلوب وليس الحديث عن الفعل والفاعل والقائم بالفعل وما يفعله على الأرض، فالكاتب ليس إطفائي لينام أياماً وشهوراً ثم يهرع لمكان إندلاع الحرائق بسرعة البرق ليطفئها، والكاتب ليس مُمرّض ليعمل بأقصى سرعة وطاقة لنقل الجرحى وإسعافهم، ولا هو من فُرق الدفاع المدني ليقوم بإزاحة المهدّمات عن الأجساد العالقة تحت الانقاض، أو انتشال جثث من فقدوا حياتهم، إنما مهمة الكاتب أن يعمل في مشغل التنوير البشري الذي يكون جل همه منع وقوع الحوادث، ومنع نشوب الحرائق، ووقاية المجتمع من الصدمات والمصائب الكبرى.




لذا نتساءل يا ترى هل تنفع الكتابة عن الطامة بعد وقوعها؟ وما الجدوى مما سنكتبه بعد إنتهاء وقت فترة التعلم وأخذ الدروس والعِبر؟ وحيث أن الأبدى من الكتابة هو تأمين مأوى لمن تهجروا من منازلهم، وتوفير الطعام والشراب لمن فقدوا كل أرزاقهم، وتأمين الحماية لمن صاروا يخشون حتى من ظلالهم بعد أن فقدوا بين ليلة وضحاها كل أسباب الأمن والأمان، وبماذا تفيد الكتابة وقت الكارثة بينما وظيفة الكتابة المعنية بالحفاظ على سلامة الإنسان البدنية والنفسية والمعيشية أن تحذّر الناس من الكارثة قبل وقوعها، أن تدفعهم أوان السلم لأخذ احتياطاتهم للأيام الكالحة، وأن تساهم الكتابات في إبعاد المخاطر عن المواطن من خلال الضغط على متخذي القرار وعبر تشكيل وعي ورأي عام جماهيري، ولكن كل ذلك لم يحصل أوان السلم، أوان فاعلية المقول، وحين انتعاش آليات التلقي والإصغاء، ووقت قدرة الإنسان على القراءة وعلى استيعاب ما يُقال له، وليس حين الهجمات وحيث أن آخر هم للإنسان الفار من وجه الموت والخراب والدمار، هو معرفة ما يُكتب عنه، حوله أو لأجله.




ومع أهمية كل ما يُكتب في الوقت الراهن عن المحنة التي يعاني منها أبناء الجزيرة السورية، إلا أن برأينا المتواضع أن هذا الاستنفار الكتابي كان يجب أن يبدأ ليس منذ انتزاع تركيا لعفرين من حزب الاتحاد الديمقراطي، إنما ومنذ أن بدأت تركيا بتهديداتها الجادة للإدارة الذاتية، طالما أنه حتى أعمى البصيرة صار يعرف بأن p k k و p y d هي ذرائع جاهزة في أدراج الأمن القومي التركي، فمتى ما عنّ على بالهم إرجاع الكرد عشرات السنين للوراء هب وترى من حيث لا ندري وقد انتعشت الفلسفة الأوجلانية في رقعة جغرافية ما!! وبدأت الجماهير تتبع من حيث لا تدري شعاراتها الطاووسية القادرة على الإبهار، وجلب الأنظار، وتحشيد آلاف الأنصار، إلى أن تبدو الحالة وكأن المنطقة غدت على أهبة الاكتناز الأيديولوجي الذي ينتظر القطاف، وكل كردي يعي الخطوط الرئيسية لسياسة الدول الإقليمية حيال الكرد، بات يُدرك بأن المستفيد الأبرز من انتعاش الفلسفة الأوجلانية وإيناعها كل فترة من الزمن هي تركيا في المقام الأول سواء داخلها أو خارجها، وذلك لتبادر هي قبل غيرها وكل مرة المباشرة بقطف المكتنز قبل كل أنظمة المنطقة!




وصحيح أن بعض الكتّاب الكرد ومنذ أكثر من سنتين يحذّرون الكرد من هذا اليوم الذي جاء بكل أثقاله ومكث كالعادة على صدور الأبرياء والمدنيين العُزّل، باعتبار أن العسكري إن لم يمت فهو من أولى الفئات التي تتملص وتبتعد عن ميادين الخراب والدمار بحكم امتلاكها الآليات وسلطة السلاح التي تسمح لها ما لا يُسمح للمدني الأعزل؛ وإذا وضعنا جانباً الكتّاب الذين يكتبون منذ أعوام عن هذه الأيام السوداء المنتظرة، يبقى السؤال الجوهري هو أما كان لإدارة PYD أن تقرأ الآتي مثلها مثل الصحفيين والكتّاب والمثقفين الكرد؟ ثم أين تلك الإدارة مما كان يُكتب منذ سنوات عن هذا اليوم بالضبط؟ وهل أصلاً في إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي شيء اسمه مكتب متابعة كل ما يُكتب عنه وعن المؤسسات التي يديرها الحزب؟ وكل هذا التجاهل ألا يدفع المرء للقول بأن الحزب ومن لف لفه يمكن كان آخر هم لديهم هو التفكير بهذا اليوم، باعتبار أن من لا مشروع مستقبلي لديه، يبقى كل غرضه أن يحقّق أكثر قدر من المكاسب المالية الآنية المستطاعة إلى أن ينتهي دوره، وفي هذا الصدد أذكر بأني تحدثت يوماً مع الدكتور محمود عباس، الذي ومنذ فترة ليست بقصيرة يقدّم رؤى وأطروحات قيمة جداً في موقع "ولاتى مه"، وفوقها الرجل صاحب موقف، وله مصداقية، ويجيد عدة لغات، ومقيم بأمريكا، وقادر على بناء العلاقات الجيدة مع المسؤولين هناك، فقلتُ له: هل اتصل بك أحد من حزب PYD أو أي مسؤول في الإدارة الذاتية بناءً على اطروحاتك؟ قال لا، قلتُ له: هل تحدّث معك أي مسؤول في الحزب بخصوص كتاباتك؟ وهل قال أحدهم سلباً أو إيجاباً بأنهم استفادوا منها أو قدّروا ما جاء فيها؟ قال لا، قلتُ: وهذا ينسحب على معظم الكتاب الكرد الحريصين على الدم الكردي من الهدر المتكرر، الذين حذّروا الأوجلانيين والمتحالفين معهم من هذا اليوم المشؤوم، لذا قلتُ أراني في شكٍ بأن يكون ثمة أحد من ذلك التنظيم المعجون بماء الشمولية والاستبداد والغرور يأخذ على محمل الجد كل ما يُكتب عن تجربته، أو كل ما يُكتب عن المخاطر المحدّقة بكرد سورية، وبالتالي هم من هذه الناحية حتى دون مستوى الأنظمة الاستبدادية التي تقرأ وتتابع وتقيّم أصوات وكتابات كل المعارضين لسياساتها، ليس من باب الخوف منها، أو الرد عليها، أو أرشفتها لحين الإمساك بأصحابها لمحاكمتهم من خلالها، إنما على الأقل فتلك الأنظمة تقرأ لمعارضيها لتعرف ماذا يدور في خلدهم، وكيف يفكرون، وما هي الجوانب التي يمكنهم الاستفادة منها حتى يتحاشوا بعض الأخطاء الفاقعة المشار إليها في كتاباتهم، هذا حتى ولو لم تعترف تلك السلطات العفنة بأنها استفادت يوماً من جهود أو ملاحظات ومآخذ معارضيها!




عموماً ليس من باب اليأس وفقدان الأمل يخطر على بالنا سؤال عن الجدوى مما نكتبه اليوم بعد أن جرى الذي كان متوقعاً أن يجري منذ سنوات، إنما لأن ثمة أسئلة تنبيهية تتكرّر منذ فجر التاريخ، والأصم المؤدلج وحده لا يقرأ تلك الأسئلة، وغائب الوعي وحده من لا تخطر على باله تلك الأسئلة، والعقول المتحجرة وحدها لا تفكر بها، ولا تسمح المخيلات العاقرة باجتراحها، وحيث أن هذا السؤال لا يطرحه فقط بعض الكتّاب الكرد السوريين في الوقت الراهن، إنما وسبق أن طرحه كُتّاب الأمم الأخرى قبيل وحين وبعد الأزمات الكبرى التي يتجرعون مرارتها، ويكتوون بنار الحرائق الكبرى نتيجة غباء الساسة الذين لم يخطر على بالهم التفكير إلا بعد حصول الفواجع، وعلى سبيل الذكر فمن بين الذين تساءلوا يوماً عن الفائدة من الكتابة وقت المصائب، المفكر الإيراني علي شريعتي، الذي أبدى تعجبه من بعض الكتابات في غير أوانها، مستهجناً بوجه خاص نموذج من الكتابات الشعرية التي يعود تاريخها إلى سنة 608 هجرية، عام دخول المغول إلى إيران وعاثوا فيها الفساد، فيتساءل شريعتي ما الفائدة من كتابة قصيدة شعرية مؤلفة من 100 بيت مسكوب سكباً فنياً قوياً إبان الكارثة، بينما جنكيز خان كان يجول ويصول في طول البلاد وعرضها، وهو يقتل وينهب ويحرق ويدمر كل شيء!! عموماً ليس تخفيفاً من دور وشأن الكتابة وقت الكارثة، وليس تهرباً من واجب الكتابة عن هذا الفصل الذي يهدّد الجغرافية والهوية القومية للكرد برمتها نقول ذلك، إنما يجرحنا باستمرار جدوى التنبيه من المصائب بعد وقوعها، متذكرين في الوقت عينه بأنه ما من ضمانة بألا يُنظر بعد فترة وجيزة، أو في المستقبل القريب إلى معظم ما يُكتب من قِبل كرد سورية عن النزيفِ وقت النزيفِ، بنفس نظرة الراحل علي شريعتي.


....


العلامات

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!