الوضع المظلم
السبت ٢٧ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
ندرة القادة وهدر الموارد والكوادر
باسل كويفي

يعاني العالم من أزمة غذاء عالمية شديدة الوطأة حيث تظهر التوقعات أن نحو 670 مليون شخص سيظلون يواجهون الجوع حتى عام 2030. وما تزال الصدمات الناجمة عن الحروب وعدم العدالة والعقوبات والصراع على مناطق النفوذ وتغير المناخ، وأزمة المياه العالمية، وفقدان التنوع البيولوجي، وغيرها من التحديات تؤدي إلى عدم الاستقرار المستدام وخلخلة للأمن والسلام العالمي وتراجع الأمن الغذائي بما يدفع نحو المزيد من الدول والمجتمعات والبشر إلى التناحر والعوز. 

يأتي في هذا السياق، لقاء الرئيس التركي مع الرئيس الروسي في سوتشي يوم 4 سبتمبر 2023 وما رشح من تصريحات مشتركة حول "اتفاق الحبوب"، حيث قال الرئيس التركي أردوغان إن أوكرانيا بحاجة إلى تخفيف موقفها التفاوضي ضد روسيا في المحادثات الرامية إلى إحياء الاتفاق، وأضاف بعد اجتماعه مع بوتين «على أوكرانيا أن تخفف نهجها حتى يكون من الممكن لها اتخاذ خطوات مشتركة مع روسيا». ونادى بضرورة إرسال مزيد من الحبوب إلى أفريقيا بدلا من الدول الأوروبية.

يذكر أن الاتفاقية التي تمّ التوصل إليها في صيف 2022 برعاية تركيا والأمم المتحدة، سمحت بتصدير الحبوب والحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، كما كان الأمل بتشكيل توافق قد يؤسس لمفاوضات سلام بين موسكو وكييف، حيث نجحت أنقرة منذ بدء الحرب فبراير 2022 في الحفاظ على توازن في علاقاتها بين البلدين، ولكن قد تكون ملامح اجتماع سوتشي ذات تأثير انتكاسي سلبي غير مؤكد على الحرب في أوكرانيا والصراع المجمّد في سوريا والنزاع الدولي حول دول الجنوب الإفريقية.

من جهة أخرى، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في بداية الشهر الحالي، إنه أرسل «مجموعة مقترحات ملموسة» لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بهدف إحياء الاتفاق، ولكن من بين المطالب الرئيسة لموسكو، إعادة ربط البنك الزراعي الروسي بنظام «سويفت» للمدفوعات العالمية، حيث إن الاتحاد الأوروبي كان قد قطع هذا الربط في يونيو (حزيران) 2022 في إطار عقوبات قاسية فرضها على روسيا بسبب غزوها أوكرانيا.

باعتقادي أن هذه المرحلة مرحلة تغيير، من ميزاتها الخطاب السياسي الصحوي، وتعتبر بداية الصحوة عند الكثيرين، في ظل المفارقات العجيبة التي تحتاج إلى دراسات وأبحاث عديدة للوصول إلى الاستنتاجات الكبيرة، فقد آن الأوان أن نصحوا من سباتنا القديم سبات الغفلة والجهل والغدر، واللغط في مفهوم الهوية والانتماء أمام السيل الثقافي المتغير والزاحف والقادم من الشرق والغرب والشمال والجنوب.

كل ذلك كان بسبب الغفلة الاجتماعية والثقافية وزيف الوعي وتفشي المظالم والفساد وعدم وضوح السياسات التي من شأنها أن تكون رافعة للبناء الاقتصادي - الاجتماعي وتحقق التوازن المطلوب، حيث أضحت البوتقة النفسية والاجتماعية والثقافية التي نعيش فيها منتجاً لحاضنات الفهم التعيس لواقع الحياة، التي في تجلياتها ودروسها وتاريخها مفهوم التغيير الحتمي الذي لولاه لما تقدمت الحضارة البشرية والإنسانية على مر الزمان، الذي لا يتوقف رغم محاولة بعض البشر التحكم بأفكار الآخرين وامتلاكهم حق التأثير على أحوالهم وتقلبات حياتهم.

لذلك تبرز أهمية الكوادر والموارد، وترابطهما معاً، في البحث عن مساحات مشتركة، فالكوادر تعرف بأنها: مجموعة من أصحاب العلم والخبرة والوعي والحكمة، التي تستطيع خلق المبادرات واستنباط الحلول من خلال المهارة المشهودة لصفاتهم وسلوكهم (بعيداً عن الوظائف والمناصب) وبالتالي قدرتهم على تجيير الموارد المتاحة لخدمة الصالح العام ضمن العدالة المتوخاة والأهداف الأساسية واللامركزية الإدارية،  وتُعد سرعة تنفيذ هذه التدابير أمراً بالغ الأهمية للنهوض وتجاوز الأزمات على المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التكتيكية منها (الإسعافية) والاستراتيجية (طويلة المدى) وصولاً إلى مسار التعافي المستدام.

وعليه تبدو الصحوة في زمن تضييع الكوادر، خير من شيطنة البدائل وهدر الموارد، ولا بد من صدمات تنشيطية في زمن الضياع للحفاظ على الأوطان، على الرغم من الاصطفاف النادر لعوامل عدة مؤاتية للتغيير، إلا أن مسار الإصلاح الاقتصادي يبقى محفوفًا بالتحديات على المستوى السياسي ولكنه يجنبنا القهر المزروع فينا.

إن التلازم بين النمو الاقتصادي والديمقراطية مرتبط بالبيئة الثقافية والاجتماعية الموجودة، فمن الممكن أن تقود أزمة اقتصادية طاحنة مجتمعاً إلى حل سياسي ديمقراطي، في نفس الوقت يمكن أن ترتد بنظم ديمقراطية إلى الاستبداد، تحت ذريعة تهديد سلامة المجتمع، فالأزمة الاقتصادية تنال من شرعية الحكومات، سواء كانت ديمقراطية أم استبدادية، وتؤثر سلباً على الاستقرار السياسي في أي منهما.

 لذا، حان الوقت لإطلاق مبادرة وطنية يُعتدّ بها لتحقيق التعافي الاقتصادي والتوازن الاجتماعي بإرادة سياسية جادّة تحد من القهر المزروع فينا، بدلًا من الاكتفاء باتّخاذ تدابير تقشّفية وتغييرات روتينية كفقاعات الزبد التي لا تغني من جوع، سيما في حال انعدام الأمل بتحقيق نمو اقتصادي في المستقبل ويُتوقّع أن تؤدّي تأثيراته الاجتماعية والسياسية إلى مزيدٍ من اللااستقرار.

في ظل عدم توافر شبكات الأمان الاجتماعي التي من شأنها تخفيف الصدمات الناجمة عن الانتقال  من نظام الدعم السلعي الذي أثبتت التجارب السابقة إنه مُكلف ماليًا، وغير فعّال اقتصاديًا، وغير منصف اجتماعيًا، ويتخلله فساد مختلف الأوجه، مما يتطلب بلورة استراتيجيات تجدّد وطنية ذات مصداقية، بإمكانها حشد الموارد، وتعزيز قدرات الدولة ومجاراة  التقدّم التكنولوجي، والاستفادة من عملية التراجع عن مسار العولمة، والتأقلم مع تحديات تغيّر المناخ والمحاسبة العامة من أجل المساءلة العامة والتحول الى بيئة جاذبة للاستثمار بدلاً من الطاردة وبالتالي تعزيز العيش والحياة.

إننا أمام مشهد عالمي واحد، يتجه نحو عالم جديد متعدد الأقطاب والتوجهات ومتغيرات عديدة على المستوى الإقليمي والمحلي والدولي، يفترض بنا كدول وشعوب العمل على ردم الفجوات والتفكير بشراكات تحقق المصلحة الوطنية وتتوازى مع المتغيرات والخيارات بانخراط متحرك جديد يبحث عن المساحات المشتركة وتقاطع المصالح لتحقيق أهداف النضال المشتركة من أجل كوكب وحياة للبشر أكثر سلاماً واستدامة.

يستدعي الحديث عن شمال شرق وغرب سوريا والجنوب السوري، في هذه المرحلة، إطلالة ولو سريعة على المشهد السياسي، عند مشروع تأسيس الدولة السورية، عام (1925-1930) على خلفية انسحاب الاحتلال العثماني بعد الحرب العالمية الأولى، والاحتلالات البريطانية والفرنسية ما بعد، وكسر جغرافيا "سوريا الكبرى" والتحول إلى حدود سوريا الحالية، إذا ما استثنينا بعض المناطق التي تم استقطاعها منها، نتيجة سايكس - بيكو وما تلاها، وبالتالي عندما نتحدث عن حدود سوريا مع تركيا والأردن وفلسطين ولبنان والعراق، تتكون لدينا فكرة تقسيمها وإقرارها، نكون قد وضعنا مسألة التحديات القائمة حالياً إمام حقائق موضوعية تغنينا عن الكثير من الجدال.

اقتباس

"يتوقف التاريخ (الدموي) العراقي عند محطة مهمة من محطاته الكثيرة، وينقلنا عام 1959 إلى مدينة كركوك، التي وصلها البارزاني في ذلك العام، وقد تشبع رأسه بالحلم القومي الكردي، وباتت تطلعاته تتجاوز النيات الطيبة، لرئيس الوزراء العراقي، وقتذاك، عبد الكريم قاسم الذي كان يأمل بقيام جمهورية يكون فيها العرب والكورد شركاء في الحكم، وحين نتصفح أوراق تلك الأيام نجد أن الأحداث الدموية أو ما تعرف بـ(مجزرة كركوك) كان سببها الصراع العرقي بين التركمان الذين يشكلون الغالبية في المدينة وبين الكورد الذين يقولون بان كركوك مدينة كردية أو (كردستانية).

بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة عام 1968 تم إصدار بيان 11 آذار/ مارس 1970 الذي يُعد نقطة تحول في تاريخ الحركة الكردية، لأنه ولأول مرة في المنطقة، يعترف للكرد بحقوقهم (القومية) وإقامة إقليم للحكم الذاتي، لكن هذه التجربة لم يكتب لها النجاح، بعد إصرار البارزاني على إلحاق كركوك بالإقليم، ورفض الحكومة المركزية هذا المطلب الذي قد يتسبب بفتح جبهة مع تركيا، لكون المدينة ذات غالبية سكانية تركمانية، إضافة إلى الكورد والعرب وأقليات أخرى، التي هدفها السياسي يتجاوز البعد العاطفي بكثير، والذي يستهدف منع إقامة نواة الدولة الكوردية التي ستهدد وحدتها الوطنية، بسبب التلاحم الجغرافي بين كورد العراق وسوريا وإيران وتركيا الذين لهم طموحاتهم القومية المعلنة، لذا ظلت تقف على الحياد وتراقب بحذر تطورات (الحرب العراقية الإيرانية) التي كان أحد أهم أسباب اندلاعها عام 1980 هو دعم الحكومة الإيرانية الجديدة بعد إطاحة الشاه في ثورة عام 1979 لأكراد العراق واندلاع العمليات المسلحة شمالي البلاد مرة أخرى.

بعد احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة، تم طرح "مبدأ الفيدرالية" كحل للوضع العراقي، وفق تصور الإدارة الأميركية، وأن تتجاوز دستورياً الكورد إلى عموم العراق، إلا أن ملف النزاع حول كركوك بقي جرحاً مفتوحاً، حيث هددت تركيا بالتدخل العسكري، مع العرب من السنة والشيعة معاً، وأنهم لا يقبلون بإلحاق كركوك بإقليم كردستان، لأن ذلك يعني بداية تقسيم العراق، ودخوله متاهات التدخل الدولي والإقليمي الذي سيزيد الوضع الحالي تردياً، بل سيدخل العراق حرباً أهلية يصعب على الدولة السيطرة عليها، فضلاً عن أن هؤلاء العرب، يرون في إخراجهم من مدينة عراقية أصلاً، يخالف أبسط حقوق الإنسان وحقه في العيش بأي مدينة في بلده، لا سيما أنهم جاؤوا للعمل والاستقرار منذ ما يزيد عن نصف قرن.

وكما يرى معظم العراقيين الحل لمسألة كركوك، هو جعلها إقايماً خاصاً، تابعاً للحكومة المركزية بما يضمن لجميع القوميات المتآخية فيه حقوقها السياسية والثقافية والقومية، ولعل هذا ما بدأ يتبلور، بعدما أدرك الجميع استحالة تحقيق ما كتب على الورق وفرضه على واقع لا يحتمله.

وأخيراً، نقول: هل سياتي حل قضية كركوك من خلال توافق الأطراف العراقية الداخلية، أم أن هذا التوافق يبقى بلا قيمة له، من دون حصول توافق دولي وإقليمي، لا نستبعد فيه لي الأذرع وفرض ما يريده الأقوى على الواقع، سواء وافق أهل هذا الواقع أم لم يوافقوا؟"

بعد 12 عاماً من العنف، ابتعد الاهتمام العالمي إلى حد كبير عن سوريا. لكن الدمار الناجم عن الزلزال أعاد البلاد إلى دائرة الضوء، مذكراً المجتمع الدولي بأنه لم تكن هناك نهاية للطرق التي عانى بها الشعب السوري، ولا حدود لخسائره.

التعنت كسر سوريا، فالصراع في البلاد ثبت أنه مستعصٍ، حيث جذبت القوى العالمية والإقليمية أدواتها على الأرض السورية، ولعل التوافق الوحيد بينها هو القرار 2254 في الصراع الدبلوماسي والإقليمي، وتبدو حياة السوريين منخفضة في قائمة أولويات الدول المتدخلة في الملف السوري لأنها حققت مصالحها على حساب مصالح السوريين.

من احتجاجات السويداء إلى دير الزور… وبين من يسميها ثورة ومن يسميها فوضى وفتنة، تختلف التسميات وتظهر الخلفيات والنتائج، فالمقاربة مع الوضع في العراق واضح المعالم (بين كركوك ودير الزور، بين الشمال العراقي والبصرة والسويداء، في وجود تفاعلات إقليمية ودولية منها متواجد على الأرض ومنها عابر للحدود) وغموض الموقف الأميركي، كلها عوامل قد تشجع وتكون بداية لتشكيل "نواة لسورية فيدرالية" بقبول شعبي داخلي في كل من تلك المناطق ودعم إقليمي ودولي قديم وحديث، حيث تراجع مشروع إنشاء الدولة والانتماء إليها كدولة مواطنة ومساواة وعدالة وحرية وديموقراطية ولامركزية إدارية، إلى مفهوم الوعي الجمعي المحكوم (البيئة الحاضنة في العديد منها) بفكر المناطقية والطائفية والمذهبية والقومية والقبلية والعشائرية وجميعها للأسف مفاهيم جذورها تمتد إلى ما قبل الدولة.

بالمختصر المفيد، يبدو أن التداخلات الإقليمية والدولية التي تتقاسم فيه مناطق نفوذ محلية سورية، وتحكمها سلطات الأمر الواقع (تعقد المؤتمرات وتخوض الصراعات).

وعطفاً على تراجع كبير في الخدمات الحكومية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية ذات الأهداف المبتورة، وعدم وجود رؤية حكومية جادة لمعالجة الأوضاع المعقدة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتقاطع مع رؤى وطنية معارضة قاصرة في البحث عن مساحات مشتركة لإنقاذ البلاد، مما يؤكد ويجدد مطالبنا بتنفيذ القرار الأممي 2254 والذي يشكل التوافق الوحيد بين القوى الإقليمية والدولية والمحلية، وباعتقادي إن الفرصة متاحة الآن لوضعه في الإطار السوري - السوري مما يساهم في وقف التداعيات والأحداث المتسارعة في الجغرافيا السورية. وغير ذلك فإن الأحداث والتفاعلات الجارية محلياً وإقليمياً ودولياً تُنذر بالأسوأ بعيداً عن الأحلام الوهمية ومجاراة الواقع.

لعل تعزيز الأواصر الاجتماعية والإسهام في تأسيس مجتمعات أكثر شمولاً ومرونة، ودعم الخدمات العامة، في هذا الوقت من شأنه تحسين الثقافة والعلوم وحماية الموروثات الثقافية. وتمكينها من أداء دورها الذي هو ضرورة للوصول إلى التنمية المستدامة في دولنا، باعتبارها شريكاً أساسياً في تحقيق تنمية المجتمعات، وتطوير قدراتها والانتقال إلى حياة أفضل.

إذا كانَ الفردُ لا يَستطيع العَيْشَ خارجَ المُجتمع، فَإنَّ التاريخ لا يَقْدِر على التَّشَكُّل خارجَ الحضارة.

وختاماً نستذكر سؤال الشاعر أبو إسحاق الغزي

مالي أرى الشمع يبكي في مواقده

من حرقـة النار أم من فرقة العسلِ؟

فأحابه أحدهم بقوله:

من لم تجانسْه فاحذر أنْ تجالسَه

ما ضرّ بالشـمع إلا صحبة الفتـلِ

ليفانت - باسل كويفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!