-
ديناميكيات الصراع والاستقرار في شمال شرق سوريا
سلّطت التطورات الأخيرة بمدينة دير الزور، التي تقع شرقي الفرات وتتبع للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، الضوء على شبكة معقدة من الصراعات الداخلية والخارجية في سوريا التي تشهد أزمة منذ ربيع العام 2011، وأظهرت تحديات كبيرة تهدد السلم الأهلي في عموم المنطقة، ما يشير إلى تحولات كبيرة على الساحة السورية، تتمدد على أرضية خصبة شرق الفرات.
فمع إعلان قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عن عملية عسكرية في ريف دير الزور تحت مسمى عملية "تعزيز الأمن"، نهاية آب/ أغسطس الماضي، والتي بدأت باعتقال قائد مجلس دير الزور العسكري (أحد تشكيلات قسد) المدعو "أحمد الخبيل"، بناء على طلب العشائر العربية بحسب بيان للمركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية، تعالت أصواتٌ تدعو إلى استنفار العشائر العربية ضد "قسد"، وما ظهر في البداية على أنه تمرد لمقاتلي المجلس العسكري ضد قيادة هذه القوات، سرعان ما تم استغلاله من قبل الأطراف الفاعلة في سوريا مترجماً الصراع القائم الذي يمتد جذوره إلى وقت سابق.
جملة من العوامل الداخلية والخارجية كانت تشير إلى أن هذه البقعة الجغرافية هي الأكثر قابلية للانفجار، وأنها مسألة وقت حتى يقوم أحد الأطراف المتصارعة بإشعال فتيل الحرب، لتتحرك الأطراف الأخرى في مسعى لتحقيق مكاسبها الخاصة، فخارجياً تثير هذه المنطقة لعاب الكثيرين للسيطرة عليها، وذلك لغناها بالموارد النفطية، إذ توجد فيها كبرى حقول النفط في سوريا وهي (العمر والتنك وكونيكو)، والسيطرة على هذه الحقول تعني تحولاً في ميزان القوى إلى جانب اتساع رقعة النفوذ، ويتفق كل من النظام السوري ومن خلفه روسيا وإيران على ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا لاستعادة حقول النفط التي تغذي محطات التكرير والغاز غرب الفرات، وتشاطرهم تركيا في ذلك، بهدف إفشال مشروع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، حيث تعتبرها خطراً على أمنها القومي من باب عدائها لوجود كيان يحفظ للكرد حقوقهم القومية ويحفظ خصوصيتهم على حدودها الجنوبية لتركيا، ولتحقق هذه الأطراف مصالحها في سوريا بدأت المكنة الإعلامية لهذه الدول تعمل على تأليب الرأي العام وإثارة الحدث بكل الأشكال، تنفذ أجندات الدول الفاعلة، بعيداً عن المصالح الوطنية السورية، وتشكيل تيار موحد يدعم الجهود الأممية لحل الأزمة السورية وفق القرار 2254.
داخلياً، يمكن تلخيص العوامل التي من الممكن اعتبارها عوامل الصراع وعدم الاستقرار وجعلت المنطقة تتصدر المشهد السوري خلال الأيام الماضية ومهدت الطريق أمام الأطراف المتصارعة للدفع بمخططاتها للأمام، وظهر هذا جلياً عبر وسائل الإعلام إلى حد تطابق فيه خطاب الأطراف المتصارعة، وبشكل خاص النظام السوري والمعارضة الموالية لتركيا ضد الإدارة الذاتية، هي أولاً، طبيعة المنطقة الجغرافية وانقسام مدينة دير الزور بين طرفي نهر الفرات الذي لم يكن يوماً عائقاً للفصل بين أبناء المدينة الواحدة وتأثر الطرفين ببعضهما البعض، أن الريف الذي شهد "انفجاراً متوقعاً" يمتد على طول نهر الفرات المتاخم لمناطق سيطرة الفصائل الموالية لإيران والنظام السوري وروسيا على الضفة المقابلة، مما يسهل عملية وصول تلك الفصائل للمنطقة بهدف السيطرة عليها إذا ما أتاحت الفرصة، وثانياً قدرة أطراف الصراع على تطويع الثقافة العشائرية المنتشرة في تلك المنطقة لصالحها، والتي تعد الرابط الأقوى الذي يرسخ العادات والتقاليد في المنطقة ويربط أبناءها ببعضهم البعض مهما كانت المسافة فيما بينهم، وبالنظر إلى العدد الكبير ممن انضموا إلى الفصائل المتحاربة في دير الزور على فترات مختلفة خلال السنوات الأزمة السورية الماضية ونزحوا إلى الريف الخاضع لسيطرة تركيا شمال سوريا فكانت أيضا من العوامل الصراع والاستقرار.
ثالثاً، تراكمات كثيرة خلال السنوات الماضية تم استغلالها، ليتم من خلالها استهداف الإدارة الذاتية، رغم أن الأخيرة تتحمل جزءاً من المسؤولية في تسليم المنطقة لمجلس دير الزور العسكري وترك الأمور تسير وفق منظور طبيعة العشائر دون التدخل لتطوير الإدارة أسوة بباقي المناطق، فلا شك أن مدينة دير الزور هي أكثر المناطق السورية التي عانت من سيطرة القوات المختلفة منذ بداية الأزمة السورية، وكانت آخر منطقة تم تحريرها من قبل مقاتلي "قسد" من تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وهي المنطقة الوحيدة التابعة للإدارة الذاتية التي ما تزال تعاني من نشاط خلايا التنظيم بشكل كبير إلى يومنا هذا، بحسب ما يتم تداوله عبر معرفات التنظيم نفسه، ويعزز هذا إقرار قوات سوريا الديمقراطية في بيان لها مؤخراً وجود خلل أمني في المنطقة، محمّلةً قيادة المجلس العسكري مسؤولية هذا الخلل، وقدرة مجموعات تابعة للنظام السوري على خرق الأمن، ليظهر المشهد على أنه ثورة لأبناء العشائر العربية ضد "قسد" والإدارة الذاتية.
إن مجموع هذه العوامل، المحلية والإقليمية والدولية، شكل الوضع القائم في دير الزور، وكان من الممكن أن يتفاقم الوضع الإنساني بصورة مقلقة، ويؤثر المشهد على استمرار النزاع في سوريا واشتعال مناطق أخرى لولا احتكام أبناء المنطقة إلى العقل وموقف العشائر العربية لجانب قوات سوريا الديمقراطية، رغم محاولات تغييب حقيقة الصراع الدائر ذات الأبعاد الإقليمية والدولية.
وكما أسلفنا الذكر، فإن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تتحمل جزءاً من المسؤولية فيما حصل بمدينة دير الزور، وتشير الأوضاع هناك إلى أن الإدارة الذاتية تواجه تحديات كبيرة تتمثل في الصراع الإقليمي والدولي، فأيضاً هناك حاجة ملحة إلى الحوار المستمر بين الإدارة الذاتية وأبناء المنطقة التي تدار وفق نظام عشائري، فالمساحة التي توفرها الإدارة الذاتية للحكم يتم استغلالها بشكل لا يتوافق مع التغيير البناء أولاً وطبيعة النظام القبلي ثانياً، كما يجب إعادة النظر في التمثيل نفسه وهياكل الحوكمة مما يرسخ الاستقرار بالمنطقة، فسوريا معروفة بتنوعها العرقي والقومي والديني، ومحاولة جمع كل هؤلاء تحت مظلة واحدة مع المحافظة على خصوصية الجميع وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية الحالية والضغوطات الموجودة، تكاد تكون مهمة شبه مستحيلة دون تغليب المصلحة الوطنية في ظل تجربة حكم تُعد مختلفة وغريبة عن شعوب المنطقة ولا تتوافق مع مصالح الإقليمية.
ليفانت - ريزان حسن
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!