الوضع المظلم
الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
ما جدوى اعتصام السويداء؟
جمال الشوفي

اعتصام السويداء ليس استثناء سورياً، فقد جربته معظم المدن السورية قبلها، من درعا في اعتصام الجامع العمري إلى اعتصام ساحة الساعة في حمص، إلى حارتها واحدة تلو الأخرى، ومحاولة أبناء الغوطة الشرقية في اعتصام العباسيين، ومثلها كثير من المدن السورية قبل 11 عاماً من اليوم. جميعها، ورغم سلميتها المعلنة والموثقة ومحاولة محاكاة ما جرى في تونس ومصر وقتها، لم تنجح بإحداث تغير سياسي في سوريا، بل قمعت بقوة السلاح والاعتقال والموت الجماعي والفردي، لدرجة أن أبناء حمص لا يعرفون بدقة لليوم من قتل منهم في اعتصام الساعة ومن اعتقل ومن اختفى! أضف لأن جميع هذه المدن والحارات هُجر سكانها من بيوتها وبقيت أثراً بعد عين بعد 2018.

فما الجدوى من تكرار ذات التجربة يا مدينة السويداء اليوم، ما دام التغيير السياسي غير ممكن والقمع هو المرتقب؟

يبدو أن البحث في الجدوى والنتيجة هو سؤال كل السوريين: ساكنو مخيمات اللجوء، المهجرون، النازحون من بيوتهم وهم يبحثون عن عودة آمنة لأحيائهم وتاريخهم ومنازلهم. المشردون في كل شتات الكون كلاجئين، ومن يجتاحه الحنين، ويرغب بالعودة. المغيبون والمعتقلون، أمهاتهم، آباؤهم، أبناؤهم أصدقاؤهم، سوريو الداخل المحشورون بين سدان الغلاء ومطرقة السلطة وقوى الأمر الواقع... الكل يبحث عن الخلاص وسؤال الجدوى يلاحق الجميع فهل تستطيعون اختراع الدولاب مرة أخرى يا أبناء السويداء؟

يدرك المعتصمون من أبناء السويداء للأسبوع الرابع، أنهم لن يتمكنوا من تغيير المعادلة في سوريا كلها، ويدركون حجم التركة المضاعفة التي باتت تأنّ تحتها البلاد. ويدركون أن لا حل لسوريا لليوم ما دامت المشاريع الدولية تدور رحاها فينا، مشاريع سياسية ودولية وتفاهمات إقليمية تدار حولنا في كل رقعة منها. بين الأتراك والروس من جهة، الأمريكيان والأتراك من جهة أخرى في ترسيم حدود الشمال السوري وشرق فراته. الروس والإيرانيون في الوسط السوري امتداداً لساحله. وسيل من أفكار المشاريع في الجنوب السوري يتناوب عليها مجتهدو السياسة الحالمون، ودول الجوار الحذرة مما تريده كل من روسيا أو أمريكا، فيما إسرائيل تراقب الجميع وتنفذ ألعابها البهلوانية في سماء سوريا كل يوم بكل حرية، تقصف موقع هنا، وتخرج مطار من الخدمة في أخرى.

يدرك المعتصمون أن الحد الكارثي الذي وصلت إليه سوريا اقتصادياً واجتماعياً لم يعد بإمكان هذه السلطة أن تقدم به حلاً يجيب على مطالب السوريين في الداخل، ولا حتى أن تلبي رغبات مواليها المعمي على قلوبهم. كما لم تعد قادرة على المساهمة بترسيم وضع سياسي أو اقتصادي بلا تقديم المزيد من التنازلات لحلفائها الروس والإيرانيين. وقد يدخل على الخط الأتراك والإسرائيليين في صفقات تطبخ على مهل. فيما المعارضة الرسمية السورية، لا حول ولا قوة لها، فقد أوقعت نفسها كما سلطة النظام بيد حلفائها وتنتظر ما يرسم لهما كل أطراف المعادلة الدولية إلا السوريين.

إذا ما جدوى الاعتصام؟

الاعتصام رسالة لكل السوريين الطيبين في كل بقاع الأرض في الداخل والخارج، معارضاً كان أو موالياً، رمادياً أو تقدمياً، ديني النكهة أو ماركسوي اللون، قومي التوجه أو ليبرالي الهوى، لا فرق. رسالة للجميع أن اخرجوا من صمتكم فقد بلغ الوضع السوري والهوية السورية حد الكارثة. دافعوا عن حقكم بالحياة، بتحقق الدولة المنشودة ومن بعدها اختلفوا على شكل حكمها، وليس العكس.

نحن هنا قررنا وعن سبق نية وعزم: أننا باقون في أرضنا، نرفض التقسيم والتطييف، نرفض التهجير والاقتلاع من بيوتنا. على قلة عددنا، نرفض هيمنة السلطة وقوى أمرها المحلية، ونرفض المشاريع الخارجية إيرانية أو روسية، أو تركية أو إسرائيلية وغيرها. باقون هنا نربط بين رغيف الخبز والحرية، العيش بكبرياء وحق المواطنة. ندرك أننا وقود معركة سياسية خاسرة وباهظة الثمن، لكنه خيارنا الأمثل.

نحن هنا نطالب بالتغيير السياسي، بالحل السوري المفترض، ونسأل السلطة بعينها وجاهة: ألم تملي من موتنا؟ ماذا لديك بعد لتفرغي البلد من أبنائه؟ ونوجه السؤال للباقين في أجهزة الدولة ومؤسساتها، المغلوب على أمرهم، هل تكفي رواتبكم أجرة مواصلاتكم؟ هل تكفي لإطعام طفلين بيضة كل يوم؟ ماذا بعد؟

هل ننتظر أن تصبح مشاريع التقسيم واقعاً مفروض علينا؟

اعتصام السويداء دعوة لكل السوريين، بكل أطيافهم وانتمائاتهم السياسية والأهلية والمدنية، دعوة لإحياء روح السلمية التي اغتيلت عمداً. مدركين أن الأحوال قد تبدلت عما هي في الـ 2011، وبات معظم الداخل السوري بين مهجر ومغلوب على امره. لكن مازال بالإمكان الفعل وربطه بالقول، حتى وإن كان أن يقوم سوريو الداخل بتأمين مؤنهم في بيوتهم يعتصموا بها. ريثما يدرك المجتمع الدولي ضرورة التغير في سوريا قبل انفجار وضعها مرة أخرى.

أما هل يستمر الاعتصام؟ فربما وربما لا. لكن توقف أو استمر لسان حالنا يردد، وكل السوريين خلفنا تردد وإن كان بصمت:

أما أنا، فأنا الباحث عن ظلٍ لا يشبه ظلًا آخر، أو زوال أخيلة ترتفع خلسةً، فظلي ألفُ ضعفٍ، ووزني ألفُ ألف جبلٍ. لا شبهة سلطة تغريني ولا موقع سياسي يملأ عيني.

أنا بحر امتدادي وقصة ولادة الـنور حضوري، الاختلاف والتعدد والتنوع وفسيفساء الكون الأنيق وجودي؛ لست السراب ولا كنت يوماً في حكم الغياب. أنا السوري بكل أطيافه وانتماءاته وأهوائه.

بين ظلين وشمس، بين نور حرية وموت معلن كتب الطريق الحكاية.. بين ظلين ونور قمر خفيف، ولدت الأعشاب على ذات الرصيف بعد قحط وجفاف. وما زلنا نعاند زمن الانتظار، ونحمل وزر تعويذة الغيّاب وحلم التائهين، أكانت شبهة موت أم مجرد غربة هذه الحياة! لنردد معاً: نحن حرّاس الصدى، نحن والوجدان السوري داخلاً وخارجاً، حراس الصدى وصوت الحقيقة المر. فلتبقى صوت الحناجر وحمى حرارة الأكف الملوحة في السماء، معلقة على قمم الجبال، فهذه القلوب المترقبة صوت الهديل ونغمات الحياة والسلام والحرية، وتلك الكلمات التي تخطّ الحد الفاصل بين وجود الأرض وقباب السماء، سنبقى تردد الصدى وتولّد الحياة.

ما فتئنا نلمُّ صوت الريح وسفر الموت فينا قتلاً وتشريداً وفقعاً وبكل الطعمات، وصافراتها تمتد فينا لتعبر مفارق الطرق ومعارجها، وقماشة القلب المزدان بالانبعاث والنبض، بعد توقف ورغم كل الموت المحيط فينا، تردد الصدى. ونحاول.

فهل هذا صعب؟ هل هذا مستحيل؟ هذا مجرى التغيير الذي نريد: كفى موتاً.

 

ليفانت - جمال الشوفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!