الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
في نهاية الـ2020: دفاعاً عنّا فلسنا بخير
جمال الشوفي

كيف سيذكر التاريخ العام 2020؟ سؤال لليوم يبدو أنّه لم يجب عليه إلا الحلاج في عصر مضى، ومن سيبقى منّا للعام القادم والأعوام بعدها؟ سؤال أجابت عليه أسطورة جلجامش أيضاً في التاريخ، يبدو أنّني أهوّل الموضوع ربما، لكن بهذا الزمن عاد الثور ليغيّر حمل الأرض عن أحد قرنيه فحدث الزلزال، كما تحدّثت الأسطورة، ولكن زلزاله هذه المرة كان في العاطفة والإحساس والتواصل الإنساني، فسيذكر التاريخ أنّ فيروساً وكأنّه شبح، ولربما سيكون واحداً من سلسلة من الفيروسات غير المرئية، بدأت تهدّد البشرية، وهي في قمة علومها العصرية وأكثرها كشفاً لكل ما كان قد خفي عن الإنسان سابقاً بأحدث ابتكاراته التقنية فائقة الذكاء والقدرة.


 


سيذكر التاريخ أنّ الناس أُسرت في بيوتها، ومُنع الآباء من احتضان أولادهم، ومنعت من العناق والتحاضن والتواصل العاطفي والحسي، خُبّأت الوجوه خلف كمامة، ربما لتخفي تكشيرة ضجرنا وقلقنا، حوّلت المدن لأشباح ومحاذير ومخاوف لا تنتهي وتباعد اجتماعي عكس تعريف الإنسان بكائن اجتماعي.


 


كما وزُّرع في النفوس الخوف من الحاضر والمستقبل، ولربما كان كل هذا مهول ومضخم إعلامياً لحاجة ما في نفس يعقوب، وشركات الأدوية والتنافس المحموم التقني والمادي غير المشبع لحاجات مصنعيه لليوم، ولا أعلم حقيقة أو أستطيع أن أجزم إثباتاً أو نفياً عما إذا كان كوفيد-19، مصنّع أو هرب من المخابر فعلاً، لكنّي على يقين أنّ عالم الفيروسات يغزونا، عالم من غير المرئيات، وكأنّها الأشباح تغزو سطح الكوكب، تهدّد الحب، العاطفة، التواصل الإنساني، الشحنات العاطفية، بالجمود والتبلّد، ولست على يقين أنّه آخر الفيروسات بل قد يكون ما بعده أشدّ فتكاً أو تكتفي البشرية من تجاربها الوحشية هذه، وأعلم أكثر أنّنا نودّع ناسنا، كبار السن منا يومياً، ولكني لا أعلم حقيقة ما انعكاسات وآثار هذا التعرّض المتتالي لهذا النوع من الفيروسات على مستقبل الجهاز العصبي والتنفسي للأطفال مثلاً، والذين لليوم أثبتوا مناعة كبرى أمام خطره اللحظي.


 


عام من الجمود، من التواصل الرقمي المقنّن، من تقنين العواطف والانتماء، عام من الهلع، مرّ على البشرية، كل هذا وقد أرخى بجثامة ثقله علينا نحن أيضاً، وكأنّه لا يكفينا ما قد مر بنا.


 


يسألني الأصدقاء عن بعد “كيفك؟” فأصمت ولا أعلم ما أجيب، أو عن أي شيء أجيب.. فنحن هنا في بلد الويلات والصعقات والصفقات لسنا بخير، ولم تعد مشاكل السنوات العشرة السابقة سوى جزء يسير من مشاكلنا، فقد اعتدنا مجرياتها وتجرعناها بهدوء، وباتت مألوفة لنا وما زلنا، على اعتيادنا، لسنا بخير.


 


نحن، لسنا بخير أبداً.. ليس لأنّ كورونا يفتك بنا ليل نهار، ونودّع أصدقاءنا وكبار السن منا يومياً دون أية إجراءات تحدّ منه، بل ربما ثمة تشجيع على انتشاره على أوسع نطاق، وكأنّ هناك إرادة على إحداث قطع تاريخي بين الأجيال، أو اجتثاث البركة من مجتمعاتنا، كما هو متعارف عليه اجتماعياً، بموت أكبر عدد ممكن من كبار السن، وليس لأنّ البلد خربٌ والمعاش فيه بات معجزة فقط، وليس لأنّ آلاف الآلاف منّا قد قضوا بين اعتقال وقتل فردي وجماعي، وملايين هجّوا وهاجروا، وباتت مدننا مدن أشباح وحسب.


 


لسنا بخير أبداً، فليس لأنّ كعاب النعال والبساطير باتت تحكم الرؤوس والعقول، ولا لأنّ شراذم وهمج الزمن الحالي باتوا أباطرة تحكم وتأمر وتنهي، تخطف وتسلب وتغتال وحسب، وليس لأنّ اللغة باتت مفرغة من معناها، وباتت بضعة سطور أو كلمات باردة تحتلّ عناوين الإعلام على حساب قضايانا ومصيرنا.


 


فنحن القابعون في معبر الموت اليومي، الملاحقون على الهمسة والنفس والكلمة، الواقعون تحت وطأة كل عبء التاريخ وعتمته، فالكهرباء بالساعات، والخبز على بطاقة غبية، والأسعار في جنون ولا رواتب تفي عوز يومين من طعام.


 


نحن القابعون هنا بكل صنوف القهر والعهر والمكر السياسي والتاريخي والكلام المعسول حباً بالوطن رياءً، لسنا بخير.. ولم يشكل كل ما ذكرته أعلاه إلا جزءاً يسيراً منه، بل لأنّنا لليوم نصرّ على أنّ كل منّا غيفارا عصره أو سلطان زمانه، إنّه القائد العام الملهم والذي لا يشقّ له غبار، عسكرياً وسياسياً وتحليلياً، فبتنا شللاً وعُصباً تتناحر على الرأي والرأي المضاد والإقحام والتناكف الفارغ، وما من هدف سوى إثبات عقد نقصنا القهري المزمن.. ونصرّ عن سبق إصرار وعمد على التراشق والتهاتر والاستخفاف بتاريخنا، بمأساتنا، مطلقين شعارات رنانة هنا وأخرى هناك، واتّهام المختلف منا بالخيانة، كما تفعل سلاطين الحكم وجبابرة العصور، ولليوم لم نتّفق على ألف باء السياسة وطريقة المشروع الوطني والهوية، فكل منا مشروع بذاته وهويته أيديلوجية وحيدة، وعلى آليّة إدارة شؤوننا المستعصية أصلاً، فنزيدها تعقيداً واستعصاء، وكأنّنا نصرّ على ساديتنا الثقافية والفكرية، حيث تكمن متعة القول بإيذاء الآخر حتى السعادة.. يا لعقدنا القهرية المتصلبة حدّ الإدمان. نهاية


 


ومع هذا ما زلنا نكابر، عفة مرة، وتجاهلاً أحياناً، وعجزاً عن مساوقة الانحطاط اللغوي أحياناً أخرى، وفي مرات ومرات، حتى لا نقطع السماحة من نفوس الكرام، أو كما قالت العرب يوماً “حتى لا نقطع النخوة من رؤوس الرجال”.


 


الحرب صناعة، وأدواتها صناعة، والفيروسات صناعة، وسلطات القتل اليومي والقهر صناعة، وهذا ليس موقف من الصناعة، بل موقف حاد من لا إنسانية الصناعة، واستمرار تجاربها إلى ما لا نهاية، بلا حدود قيمية وإنسانيّة، من قوة الآلة التي صنعها العقل البشري، وأوغل من خلالها في الهيمنة والحيازة على كل شيء، حتى على مشاعرنا وعواطفنا، نحن البشر.


 


دفاعاً عن الطبيعة، عن محتواها البسيط والجمالي، عن احتضانها لنا بين الأشجار والسهول والحقول، عن احتضان بعضنا بعض، عن اتساع مساحات روحنا وأذرعنا لبعض، عن وجودنا الحسي والعاطفي، عن عدم ملاحقتنا على حرية الكلمة والتعبير عن تعاضدنا، حتى يستفيق الحلاج مرة أخرى ويعالجها بتصوفها حين يستعصي الواقع بثقله عن العلاج، فلم تعد أرضه تحمل بعضاً منه، فقد باتت كل الأرض لا تحملنا، ولن يبقى منّا سوى من يستطيع أن يخلّد جلجامش في ذاته القمحية العصية على الفناء، فما بقي الثور يبدل عن قرنيه مكراً علمياً أو دهاء سياسياً أو بطشاً سلطوياً، ستبقى الأرض تشتاق عشتار وقصة الخصب والحياة، ولربما يأتي زمن نرقص، كما فعلها الهنود الحمر ذات يوم طرباً وحياة، فهذا عصر يستحق أن يسجل بالذاكرة بكل نكباته وويلاته، ويخلّد فرادة من تحدوه قولاً وكلمة ووجود.. ربما عندها يمكن أن نبدأ اكتشاف كيف نكون بخير




ليفانت _ جمال الشوفي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!