الوضع المظلم
الجمعة ٢٢ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
فلسفة اللغة وتحرير الفعل الاجتماعي
 إبراهيم أبو عواد 

الفِعْلُ الاجتماعي -على الصعيدَيْن التاريخي والرمزي-يُمثِّل توليداً مُستمرّاً للفِكْرِ والشُّعورِ، وهذا يُؤَدِّي إلى صناعةِ إطار مرجعي يَشتملُ على تفاعلات اللغة معَ شخصية الفرد الإنسانية، ويُسَاهِمُ في تكوين فهم عميق للعلاقة التبادلية بين مَضامينِ الوَعْي الواقعي وتَراكيبِ العوالم الذهنية، التي يَبتكرها الفردُ لإيجاد بناء اجتماعي خيالي يُوَازِي الواقعَ المادي، ويتعالى عليه.

والانفصالُ بين الواقعِ الذي يعيش فيه الفردُ، والواقعِ الذي يعيش في الفردِ، هو نتيجة طبيعية لضغط الأنساق الاستهلاكية الخشنة على السُّلوكِ الفردي والطُّموحِ الجماعي. وهذا الضغطُ يَدفع الفردَ والجماعةَ إلى إنشاء تفسيراتٍ مُتَنَوِّعَة للحياة، وتأويلاتٍ مُتَعَدِّدَة لِبُنية اللغة، ضِمْن السِّيَاق الاجتماعي، بحثاً عن مَعنى لِمَركزية الفِكْر وجَوهرِ الشُّعور. وإذا كانَ الدافعُ الإنساني -فرديّاً وجماعيّاً يُعيد تشكيلَ الواقع المادي استناداً إلى رمزيةِ اللغة وخصائصِ الفِعْل الاجتماعي، فإنَّ العقل الجَمْعِي يُعيد تَكوينَ مصادر المعرفة اعتماداً على المصالح الشخصية والمنافع العَامَّة، أي إنَّ المُجتمع -بِكُلِّ هياكله الوجودية وآلِيَّاته اللغوية وأدواته الاجتماعية- يُطَوِّر المعرفةَ كَي تَخدِم شرعيةَ النسقِ الحياتي الذي يَقُوم على البُنيةِ اللغوية والفِعْلِ الاجتماعي. وهذا يَعْني انتقالَ المعرفة مِن القُوَّة الذاتية المُكتمِلة بِنَفْسِها إلى الفاعليَّة المركزية في العلاقات الاجتماعية، وَتَحَوُّلَ هُوِيَّة اللغة (وَسِيط تواصلي) إلى سُلطة اجتماعية (وَسَط إبداعي).

فلسفةُ اللغةِ تُحَرِّر الفِعْلَ الاجتماعي مِن الوَعْي الزائف، وهذا يُكرِّس العقلانيةَ كَنَزعة إنسانية عابرة للحُدود الزمنية والحواجزِ المكانية، ويُجذِّر الثقافةَ كَتَيَّار معرفي مُتَجَاوِز للصِّرَاعات التاريخية، التي تَدفع الفردَ إلى تَكوينِ رؤية أُحَادِيَّة ضَيِّقة، واحتكارِ تفاصيل الحياة اليومية، والسَّيطرةِ عليها، وأدلجتها فكريّاً وعمليّاً، واستغلالها لتثبيت الذات كمرجعية أساسية، وجَعْل الآخرين يَدُورون في فَلَكِها. وهذا يَعْني أنَّ الفرد يَعتبر كِيَانَه هو مركزَ الحقيقة، وكُلَّ العناصرِ الخارجة عن مَسَارات كِيَانِه أطرافًا عابرةً، ويَعتبر كَينونته هي مَتْنَ الوُجود، وكُلَّ العوامل الخارجة عن حدود كَينونته هوامشَ تابعةً. وتكريسُ الفردِ لذاته –كِيَاناً وكَينونةً وهُوِيَّةً وسُلطةً، وإلغاءُ ما سِوَى ذاته، ونَفْيُ مَا عَدَاها، وإقصاءُ كُلِّ ما يُعارضها، مِن شأنه حَشْر الفرد في الزاوية الضَّيقة، ودَفْعه إلى الانكماش على نَفْسِه، والتَّقَوْقُع عليها، ورفض إنجازات الآخَرِين جُملةً وتفصيلاً، وهذا لا يُؤَدِّي إلى التَّطَرُّف فَحَسْب، بَلْ أيضاً يَقُود الفردَ إلى تدمير نَفْسِه بِنَفْسِه، لأنَّ قُوَّة الآراء كامنة في تَنَوُّعها، وشرعية الوجود الإنساني مُستمدة مِن تَعَدُّدِ الشخصيات وتَلاقُحِ الأفكار. وجُمُودُ الفردِ ذاتيًّا وفِكريًّا سَيُنتج سُلطةً وهميةً تَحتكر الحقيقةَ، وتتحدَّث باسمِ عناصر الطبيعة. والفردُ إذا ألغى الآخَرين، فهو يُلْغِي نَفْسَه مِن حَيث لا يَشْعُر، وإذا رَفَضَ الحضارةَ فهو يَشْطُب تاريخَه مِن حَيث لا يَدْرِي. وعُذوبةُ الماءِ نابعة مِن جَرَيَانه، وإذا استقرَّ صَارِ آسِنًا.

لا يُمكن تحقيق التَّحَرُّر الإنساني إلا ضِمن الإطار الأخلاقي، وهذا مِن شَأنه رَأْب الصَّدْع بين اللغة كَهُوِيَّة وُجودية والثقافةِ كَتَيَّار معرفي. وإذا كانَ الفِعْلُ الاجتماعي يَستمد شرعيته من اللغة والثقافة، فإنَّ التاريخَ يَستمد طاقته مِن عملية البحث الدَّؤُوب عن مَعنى الأشياءِ ومَنطق العلاقات. والمُجتمعُ يَعتمد على القِيَمِ الأخلاقية والرموزِ اللغوية والظواهرِ الثقافية، مِن أجل إعادة صِياغة التأويلات اللغوية في فلسفة الأنساق التاريخية. ولا يُوجَد تاريخ بِدُون فِعْل اجتماعي، ولا تُوجَد فلسفة بِدُون رمزية لُغوية. واللغةُ تعتمد على المَعَاني الإبداعية والصُّوَرِ الذهنية والوَعْي الواقعي، مِن أجل إعادة صناعة شخصية الفرد الإنسانية في البُنية الوظيفية للسُّلوك الفردي والجماعي. ولا يُوجَد سُلوك بِدُون هُوِيَّة اجتماعية، ولا تُوجَد شخصية بِدُون سُلطة اعتبارية.

البُعْدُ الاجتماعي لفلسفة اللغة يَحفظ التوازنَ بين النظامِ الواقعي العَمَلي (الموضوع الثقافي والمَضمون الإنساني) والنظامِ الشخصي العِلْمي (الشُّعور النَّفْسِي والإدراك الحِسِّي)، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحليل أبعاد الوَعْي الواقعي في الفِعْل الاجتماعي، ودَمْجهما معًا في الظواهر الثقافية، مِن أجل تَكوين مُجتمع ديناميكي مُتَحَرِّر مِن الأوهام، ومُنفتِح على التأثيرات الحياتية المُتبادلة بين الفرد وبيئته مِن جِهة، وبين اللغةِ والتاريخِ مِن جِهة أُخْرَى. والتَّحَرُّرُ مِن الأوهام يُؤَدِّي إلى مُسَاءَلَةِ الأنساق الاجتماعية، والبحثِ في كيفيةِ نُشوئها وتَشَكُّلها، وعدم اعتبارها مُسَلَّمَات فوق النقد والنقض، وعدم تصنيفها كأيقونات مُقَدَّسَة، لأنَّ الأنساق الاجتماعية صناعة إنسانية تَختلف باختلاف المَاهِيَّات والهُوِيَّات. وإذا كان العُنصرُ الاجتماعي مُتَغَيِّرًا في الواقعِ المُعَاشِ والأحداثِ اليومية، ولا يَتمتَّع بالثبات والدَّيمومة، فهذا دليلٌ على خُضوعه لِصَيرورة التاريخ، التي تتأثَّر -سلباً وإيجاباً- بالتأويلات اللغوية المُختلفة. والتاريخُ يَمْلِك أولويةً على اللغةِ في بُنيةِ الفِعْل الاجتماعي، واللغةُ تَمْلِك أسبقيةً على التاريخ في جَوهر الفِكْر الإنساني.

ليفانت - إبراهيم أبو عواد

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!