الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
العنكبوت المقدس
عبد الله الشعار

تلعب السينما الإيرانية دوراً بارزاً في نقل الواقع وتجسيد الأفكار، وخلق مساحة فنية معبرة عن خيالات الأفراد والجماعات، من خلال صور وموسيقا وكلمات تشكل العمل السينمائي بشكله الكلي. كما أن الحالة العامة للاجتماع البشري تتأثر بقيم الأفراد والجماعة وسلوكياتهم النابعة عن معتقداتهم وعن السياسات الممارسة عليهم. فكيف يمكن للسينما الإيرانية أن تتأثر بالواقع الاجتماعي المحلي وتؤثر به بوجود نظام شمولية يمارس سلطته الدينية على الفرد والمجتمع؟

الفيلم من فئة أفلام الإثارة والغموض ومستوحى من قصة حقيقة حدثت في إيران بين عامين ٢٠٠٠ و٢٠٠١، في مدينة مشهد المقدسة عند المسلمين الشيعة.

يصور لنا الفلم قصة حقيقة لقاتل متسلسل، وقعت ضحيته ١٦ سيدة تعملن في بيع الجنس، وكادت ان تكون الصحفية التي كشفت المجرم في الفلم هي الضحية السابعة عشر.

نتابع من خلال المَشاهد المصورة أحد الرجال المتدينين الذي قرر تنظيف شوارع مدينة مشهد المقدسة في إيران من عاملات الجنس الموجودات في الشوارع.

قتل تلك النساء واحدة تلو الأخرى من خلال استدراجهن إلى منزله وإلى أماكن مختلفة ليقوم بخنقهن من خلال لف حجابهنَ على الرقبة والضغط بقوة على تلك المنطقة القاتلة، ومن ثم لفهن بغطاء أسود كبير، ونقلهن الى مكان بعيد عن الأنظار ورميهن في العراء، ليتم اكتشاف جثامينهن في الأيام التالية من قبل السكان، وإعلام الجهات المختصة ومن ثم نقلهن إلى الأماكن المخصصة لمتابعة الدفن.

تثير الجريمة اهتمام أحد الصحفيات التي بدأت مباشرة في متابعة القضية، لتقوم بلقاء النساء اللواتي يعملن في بيع الجنس لمحاولة الوصول إلى القاتل. تتابع الصحفية عملها بمساعدة من أحد زملائها بالرغم من الضغط الكبير الذي مورس عليها، ومن عدم اهتمام الشرطة المحلية. إلى أن تقرر أن تقوم بلعب دور بائعة الجنس وأن تقف بنفس المكان الذين يقفن به، لكي تتابع القضية بشكل مباشر وشخصي.

ذهبت إلى المكان المخصص لوقوف السيدات وانتظرت إلى حين وصول القاتل. التقيا واتفقا على الأجر ومن ثم اصطحبها إلى منزله الواقع في أحد الحارات متوسطة الدخل والأقرب إلى الفقر.  في المنزل وبعد دخول الصحفية التي تلعب دور أحد بائعات الجنس، بدأت محاولة الخنق والعراك بين القاتل والضحية، لتتمكن بعدها من الفرار بعد أن قامت بتسجيل كل ما حدث من خلال جهاز تسجيل للصوت كانت قد وضعته سلفاً في حقيبة الكتف الخاصة بها. لتقوم بتقديمها إلى قسم الشرطة في المدينة ويتم اعتقال القاتل وتسليمه للقضاء. يحكم عليه بالسجن ١٤ عاماً بالإضافة إلى ٢٠٠ جلدة في الجلسة الأولى، ومن ثم قررت المحكمة إطلاق حكم بالإعدام ١٢ مرة بسبب جرائم القتل المتكررة التي قام بها، ليتم شنقه باستخدام الحبل المتدلي.

بالإضافة إلى جريمة القتل المتسلسلة الذي يصورها الفلم بشكل مباشر من خلال إعادة تجسيد القصة التي حدثت في مدينة مشهد الإيرانية، ينتقد الفلم عدم اكتراث القوى الأمنية للقضايا التي لا تنسجم مع السياسات الداخلية للجمهورية الاسلامية، مثل التقصي والعمل على قاتل النساء بائعات الجنس في شوارع المدينة المقدسة.

يظهر لنا الفلم تعاطف العديد من المدنيين مع القاتل. تجسد الأمر في مشاهد عديدة في الفلم منها وجود تجمعات كبيرة أمام المحكمة للمطالبة بحرية المجرم وأنه كان يقوم بعمل مقدس هو حماية شرف المدينة. ومن خلال عدم جلد أحد موظفي الشرطة للمجرم عندما كانا في غرفة لا يوجد فيها الا الجلاد والمذكور سابقًا، ليقوم بجلد الحائط بدلًا من جلد المجرم.

لاقى العمل صدى جيد في السينما الغربية بشكل عام وذلك لترافقه مع المظاهرات المنتشرة في العديد من المدن الإيرانية أثر وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني على أيدي الشرطة الأخلاقية وهي في عمر ال٢٢ عامًا. لتعم المظاهرات للمطالبة بحرية النساء وإيقاف القتل ورفع السلطات والممارسات الدينية عن حياة السكان.

 

لم يكن من الممكن تصوير الفلم في إيران بسبب وجود المخدرات وبعض المشاهد التي تحتوي على أجزاء من الجسم ظاهرة أثناء ممارسة الجنس، بالإضافة إلى أن الفلم يصور السلطة على أنها غير مهتمة من متابعة القضايا الإجرامية التي لا تنسجم مع سياستها الداخلية. بهذه العبارات صرح علي عباسي، مخرج العمل، في لقاء مع صحيفة افتون بلادت السويدية، أجراه الصحفي جان أولوف أندرسون.

تعتير مدينة مشهد الإيرانية من أهم المدن المقدسة، لوجود ضريج الإمام علي بن موسى الرضا وهو ثامن الأئمة المسلمين الشيعة. يسمى الموقع الذي يوجد فيه الضريح العتبة الرضوية او الحضرة الرضوية، وهي عبارة عن مساحة عمرانية فيها منائر وصحون ومعتصمات وايوانات وأروقة، يُستقبل فيها زوار الضريح.

بالإضافة إلى البقعة الهارونية أو بناء الهارونية، نسبة للخليفة العباسي هارون الرشيد والتي كانت ملتقى لأتباع الصوفية في القرن الثامن عشر.

معلومات إضافية

تم اختيار زارا ابراهيم التي لعبت دور الصحفية في الفلم والذي هو أحد أدوار البطولة، بالإضافة إلى العديد من الأعمال السينمائية الأخرى، لتكون من ضمن النساء الأكثر الهاما وتأثيراً لعام ٢٠٢٢ على قائمة الـ بي بي سي .

مهدي باجستاني، مثل دور البناء سعيد قاتل النساء في الفلم بحجة تنظيف المدينة الشريفة.

علي عباسي، مخرج وكاتب سيناريو ايراني من مواليد طهران ١٩٨١.

درس الإخراج السينمائي في المدرسة الوطنية للأفلام في الدنمارك وتخرج منها عام ٢٠٠١. عمل عباسي على فلمين سبقا فلمه الأخير. الفلم الأول بعنوان (إم لماركوس)، عام ٢٠١١. والفلم الثاني (الحدود) الحاصل على أحد جوائز أوسكار عن أفضل فلم سويدي بلغة أجنبية، ليكون فيلم العنكبوت المقدس ذو الإنتاج المشترك السويدي والدنماركي والفرنسي والألماني ثالث أفلامه والذي يعرض الآن في دور السينما العالمية.

 

نديم كارلسون، مدير التصوير الذي أعطى العمل عمق بصري من خلال المشاهد المميزة، بداية من المشهد الكلي لمدينة مشهد من الأعلى من خلال طائرة الدرون ومن ثم من خلال المشاهد العديدة القريبة التي نقلت لنا مشاعر الشخصيات بشكل دقيق.

الواقعة الحقيقة

بالعودة إلى مقال نشر بواسطة حسن فحص في جريدة الحياة اللندنية في تاريخ ١٥/٠٨/٢٠٠١

ذكر الكاتب على أن سعيد حنائن الملقب بالقاتل العنكبوت، قتل ١٦ سيدة، كما أنه كان ينوي القضاء على ١٥٠ سيدة من أصحاب السوابق على حد قوله في سجلات التحقيق.

قال القاتل حين اعتقاله أنه كان يقدم على القتل من دون أن يعتريه أي شعور بالرهبة أو الخوف، وكان كأنه يقطف ثمرة "خربوزه" نوع من البطيخ الأصفر الإيراني (يشبه الشمام). وإذا أطلق سراحه فهو عائد إلى ما بدأ به، لأنه ينوي قتل 150 امرأة! وأنه كان يقوم بذلك لمحاربة الفساد الأخلاقي المتفشي في مدينة مشهد، مرقد الإمام علي بن موسى الرضا.

كما ذكر أخ سعيد الكبير بأن "أهل الخير قد مدوا يد المساعدة لتوكيل محامي يدافع عن قضية شاب مناضل قام بما قام من أجل إصلاح مجتمع ". وليضيف الأخ قائلاً: “فليفتشوا عن الدوافع والأسباب، وليس عليهم التعامل مع سعيد على أنه مجرم، فالنساء الفاسدات والمتسكعات يورطن الناس ويضللن الشباب". وتابع "إذا قام بعمله هذا فالسبب يعود إلى أن المسؤولين عن المجتمع، لا يبدون أي اعتناء بسعيد وأفكاره وأفكار أمثاله الذين يريدون أن يعيشوا في مجتمع إسلامي نظيف وسليم".

رأي وتحليل

تحول هذه القضية إلى قضية رأي عام عند جزء من سكان مدينة مشهد ودعم القاتل بدلًا من تكريسها لتكون رمز سلبي إجرامي للعنف ضد النساء، تتجسد من خلال تأمين تكاليف الدفاع عن القاتل من أهل الخير كما أطلق الأخ الكبير على الداعمين لهذا العمل الإجرامي، يعطي تصوراً عن شكل الوعي الاجتماعي تجاه المسائل المتعلقة بالنساء عند هذه الشريحة وكيفية تماسك المجتمع بشكل عفوي وسريع عند أي ممارسة للعنف الأبوي يمارسه أحد الأفراد من خلال تطهير المدينة من الفساد الأخلاقي حسب التقييم المجتمعي لها. بدون النظر والعودة إلى أسباب ودوافع العاملات في الجنس الذي يوضح لنا الفلم التمثيلي والفلم الوثائقي المصنوعان عن الحادثة، بأن الفقر وقلة الحيلة هما السببان الأساسيان اللذان دفعا العاملات للعمل في هذا المجال في مدينة لها شكلها الاجتماعي والديني كما هو الحال في مدينة مشهد. ليعاد أمام ناظرنا مشهداً مكرر، تكون فيه الضحايا نساء قتلن بأدوات المجتمع وبسبب سياسات السلطة.

يُظهر لنا الفلمان التمثيلي والوثائقي مشاهد للابن الفخور بما قام به الأب. يُختتم الفلم التمثيلي بقيام الابن الصغير بشرح ما قام به الأب، واضعاً الأخت الصغرى على الأرض كمثال للشرح، ويتابع بتجسيده لنا كيفية خنق النساء من رقابهن، واضعا قدمه على صدر اخته موضحا للمشاهدين كيف التخلص من الملوثات الاخلاقية للمجتمع الديني النظيف الأصيل.

 

يُمثل العنكبوت المقدس العديد من النماذج التي نراها في مدن مختلفة وبأمثلة متكررة، يجسدها رجل قرر ممارسة دوره الاجتماعي في حماية شرف العائلة ورد اعتبارها من خلال ممارسته لعمل إجرامي، يكون أثره على الأخت أو الزوجة أو إحدى البنات المقربات، ليتشكل أمامنا هذا النوع المدافع عن الكرامات الاجتماعية بشكلها الذكوري الناتج عن هياكل أبوية مستشرسة ومتأصلة في فهم الظواهر الاجتماعية وتحليلها. هذا الفهم والتتابع لهذه السلوكيات تعطينا شرحاً لوجود كيانات مثل الشرطة الأخلاقية في إيران أو كل ما يوازيها في مجتمعات العالم العربي وفي أماكن عديدة، ليكون لديهم القوة المباشرة والمبررة والمحمية والمباحة على النساء في ممارستهن لتصوراتهن عن حياتهن وطرق التعبير عنها.

ليفانت - عبدالله الشعار

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!