-
عن الإخوان المسلمين و"الاعتدال" المزعوم
بين حينٍ وآخر، يدور جدل من نوع خاصّ على الصفحات السورية المعارضة في مواقع التواصل الاجتماعي، وتكرّر مع وفاة المعارض السوريّ البارز ميشيل كيلو. فعند رحيل شخصيّة عامّة منحازة للثورة "من غير المسلمين"، سياسية أو ثقافية أو فنّية أو غيرها، يخرج كثيرون من الإسلاميين أو المتأثرين بأفكارهم، لتذكير الآخرين "بعدم جواز الترحّم على غير المسلم"، علماً أنّ بعضهم لا يمانع التعزية في المتوفّى لكن دون الترحّم، فالتعزية قد تقتصر على التعبير عن مشاعر الحزن والمواساة. وتحصل سجالات وجدالات لا تنتهي، بين هؤلاء وبين مسلمين مؤمنين ممن يرفضون الأخذ بهذا القول، نظراً لما يرون فيه من تشدّد وبغضاء وقلّة احترام لشخص المتوفّى.
مبدئياً، يمكن وصف الفريق الأول بالمتشدّد مقابل اعتدال الثاني، علماً أنهما يستندان في موقفيهما المتناقضين إلى نصوص ومرويّات من الدين الإسلامي نفسه، إنما بتفاسير وفتاوى مختلفة. باختصار، يستند رافضو الترحّم أساساً إلى الآية 113 من سورة التوبة: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ"، وما بني عليها من تفسير. فيما يردّ المترحّمون بأن معنى الآية جاء على سبيل التخصيص لمشركي ذلك العصر، ويدعمون قولهم بعبارة "..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" الواردة في الآية 156 من سورة الأعراف، ويرفض الفريق الأول تفسير الآية على هذا النحو، فعندهم الرحمة هنا تقتصر على الحياة الدنيا وليست الرحمة الحقيقية في الآخرة وهي المغفرة. ومن جهة ثانية يؤكّدون حصرية الرحمة بالمسلمين، استناداً لتتمة الآية نفسها والآية التي تليها: "..فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)"، ويدعم كلّ فريق حجّته بأمثلة وشواهد من الحديث والسيرة.
اللافت أن ذلك الموقف المتشدّد "عدم الترحّم على غير المسلم"، لا يقتصر على أفرادٍ متشدّدين، وإنما تتبنّاه كبرى الجماعات الإسلامية التي يحلو لبعضهم تصديق "الاعتدال" الذي تزعمه ووصفها به، وهي "جماعة الإخوان المسلمين". ليس هذا اتّهاماً ضدّ الجماعة من كاتب يعدّ نفسه خصماً لها ولمشروعها، وإنما تؤكّده البيانات والمواقف الرسمية الصادرة عنها وعن رموزها في هذه المسألة.
جاء في بيان التعزية بالراحل ميشيل كيلو، والصادر عن (محمد حكمت وليد) المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا، باسمه واسم الجماعة: "أتقدم بأحر التعازي إلى جميع أبناء الشعب السوري، بوفاة المناضل الأستاذ ميشيل كيلو، ابن سوريا البار، الذي قضى حياته مناضلاً في سبيل وطنه. لقد كان الفقيد قامة شامخة، قال كلمة الحق وعاش في منفاه يقارع الظلم والطغيان، وعرف بمواقفه الحرة ومعارضته للطائفية والاستبداد.. وداعاً يا أبا أيهم، وتعازينا لكل ذويك ومحبيك.. وإنا لله وإنا إليه راجعون".
كما سبقت الإشارة، التعزية بالميت غير الترحّم عليه، ومن الواضح أن بيان الجماعة اكتفى بذكر مناقب الفقيد، والتقدّم "بأحر التعازي"، لكنّه خلا من أي مفردة تترحّم عليه، خلافاً لكافّة بيانات التعزية والنعي المنشورة على الموقع الرسمي للجماعة، وهي كثيرة وصدر بعضها قبل أيام فقط. ففي 17 نيسان (أبريل) الجاري نعت الجماعة (الشيخ مصطفى مسلم)، وختمت بيانها بالقول "رحم الله البروفيسور مصطفى مسلم، وغفر له، وتقبله في الصالحين". وفي 14 منه، تقدّم المراقب العام "بأحر التعازي والمواساة إلى الشعب العراقي الشقيق عامة، والإخوة في حركة العدل والإحسان خاصة، بوفاة رئيس الحركة الأستاذ مصطفى الصالحي.. أحد قادة الحركة الإسلامية، وجماعة الإخوان المسلمين في العراق" وختم بالدعاء: "أسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته ويُسكنه فسيح جنّاته، ويتقبل منه عمله الدؤوب في الدعوة إلى دين الله وخدمة الإسلام والمسلمين".
وفي بعض البيانات، فإنّ الدعوات بالرحمة التي بخلت بها الجماعة على السوري ميشيل كيلو، شملت الأتراك، كالبيان الصادر في 14 شباط (فبراير) 2021، إثر مقتل عسكريين أتراك في شمال العراق، واختُتم بعبارة "رحم الله شهداء الشعب التركي، ورزق ذويهم الصبر والسلوان". ومثله بيان التعزية بضحايا الزلزال نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 2020. وللأشقاء اللبنانيين أيضاً نصيبهم مما حُرم (كيلو) منه، فالجماعة في بيانها بتاريخ 5 آب (أغسطس) 2020 للعزاء بضحايا تفجير ميناء بيروت دعت "إلى الله أن يتغمد الشهداء برحمته".
مثال آخر على التشدّد الإخواني في "عدم جواز الترحّم على غير المسلم"، عند (زهير سالم) الشخصية البارزة في الجماعة، والذي سأل الله "المغفرة والرحمة" لنائب رئيس النظام السوري (عبد الحليم خدّام) المعروف بفساده ودوره الكبير في خدمة الأسد ونظامه لعقود (لكنّه مسلم)، بينما لم يترحّم على المعارض الوطني ميشيل كيلو (المسيحي)، في تعزيته به مكتفياً "بخالص العزاء والمواساة". وبمقارنة بيانات التعزية المنشورة حتى تاريخه على موقع "الشرق العربي" التابع لزهير سالم، يُلاحظّ أنّه إلى جانب الراحل ميشيل كيلو، توجد شخصية واحدة فقط استثنيت من الترحّم، وهي مسيحية أيضاً، وذلك عند التعزية بـ"المأسوف عليه البطرك بطرس صفير" حسب وصف سالم، وهي "حيلة" ليست بجديدة عند الإسلاميين لتجنّب الترحّم على غير المسلمين. وهنا من الطريف ذكر ما رواه الصديق الشيخ محمد أمير ناشر النعم، عن حديث مشايخهم في مدرسة الخسروية، أن أحد أساتذتهم علّمهم أن يقولوا عن المتوفى غير المسلم "المأسوف عليه" بدلا من "المرحوم"، وكم كانوا فرحين بهذه العبارة!
وبعد، أيُّ اعتدال يدّعيه "الإخوان المسلمون"، ما داموا ينظرون إلى غير المسلمين بوصفهم "مشركين" لا يجوز الترحّم عليهم؟!
ليفانت - طارق عزيزة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!