الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
صراع المعابر ولعبة الابتزاز السياسي في سوريا
عبير نصر

مع تحوّل المسألة السورية إلى التدويل بدأت حربٌ باردة أساسها الصراع اقتصادياً على المعابر والممرات السرية، بعدما رُبطت مناطق السيطرة والنفوذ عبر نقاط ساخنة فرضتها سلطات الأمر الواقع، فيما نشطت عمليات التهريب، وأودت بحياة العشرات برصاص أطراف الصراع، التي استخدمت تلك المعابر أداة ضغط، وورقة ابتزاز لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية.

واليوم يشهد الملف السوري سخونة دولية، لكن ليس حول الملف السياسي الراكد، إنما حول المساعدات الإنسانية وآلية إدخال مواد الإغاثة. فالتفويض الدولي (2533) منذ يوليو/ تموز 2020، أجاز استخدام معبر واحد فقط خارج سيطرة الحكومة السورية لإدخال المساعدات، وهو معبر باب الهوى، بينما تخوض الولايات المتحدة حملة دبلوماسية لإحراج روسيا، ومنعها من استخدام الفيتو ضد قرار تمديد التفويض، لإدخال المساعدات عبر المعبر الذي تسيطر عليه فصائل موالية لتركيا.

والخلاف في مجلس الأمن، يتلخص في رفض الجانب الروسي والصيني المقترحات الغربية بإيصال المساعدات عبر المنافذ الحدودية التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة في الشمال السوري، وترى موسكو وبكين، أنّ تجاهل التعامل مع الحكومة السورية، صاحبة السيادة الشرعية على الأرض، فيه خرق للقانون الدولي، وتؤكد على ضرورة أن تكون الحكومة السورية جزءاً من عملية إيصال المساعدات إلى سوريا. بطبيعة الحال لا ترتبط قضية المعابر الإنسانية هذه بسيادة الدول وبشرعية السلطة القائمة فحسب، بل ترتبط أيضاً بمُجمل الواقع القائم على الأرض وبالسياسات التي اتبعتها الأطراف الدوليّة تجاه الصراع فى سوريا، إذ تتداخل معها قضايا المعابر الداخلية عبر خطوط التماس بين الأطراف الثلاثة أو الأربعة التي تتقاسم الهيمنة فى البلاد، وهناك أيضاً قضايا الإجراءات أحاديّة الجانب (العقوبات) التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل وأكثر من ذلك قضايا شفافية آليّات توزيع المساعدات وعدالتها، أضِف إلى ذلك كلّه تداعيات الانهيار الاقتصادي المستمرّ في لبنان.

المصالح معقدة لا شك. أميركا مهتمة باستمرار فتح المعابر الحدودية وزيادتها، خصوصاً إعادة فتح "اليعربية" بين مناطق سيطرتها شرق الفرات والعراق. وتركيا مهتمة باستمرار فتح "باب الهوى" مع إدلب، وإعادة تشغيل "باب السلامة" شمال سوريا، لكنها ليست متحمسة لفتح "اليعربية" وتعزيز "الإدارة الكردية". أما روسيا، فهي غير مهتمة بفتح معابر حدودية جديدة، لكنها مهتمة بتشغيل "الممرات" الداخلية للضغط على الأمم المتحدة والغرب للعمل مع الحكومة السورية عبر دمشق. وكانت تركيا قد ربطت تشغيل "الممرات" بين إدلب وريف حلب من جهة، ودمشق من جهة ثانية، بإغلاق المعابر القائمة بين دمشق والقامشلي. فعلياً المفاوضات القائمة بين الأمريكيين والروس والأتراك حول تمديد القرار الدولي لإيصال المساعدات الإنسانية "عبر الحدود" تتضمن في العمق البحث عن خيط يربط "المعابر" و"الممرات"، ما يفتح الباب على صفقات ومقايضات سرية.

وفي الحقيقة معبر "باب الهوى" مع تركيا ليس الأكثر نشاطاً. إذ يتخطّاه بكثير معبر "باب السلامة" قرب أعزاز، إضافةً إلى معابر "الراعي" و"جرابلس" و"جنديرس"، حيث تمرّ الصادرات التركية إلى الشمال الغربي، وبشكلٍ أقلّ الواردات. هذا حيث بقيت قيمة هذه الصادرات التركيّة تماثل تلك التي كانت قائمة قبل الصراع (حسب الإحصاءات الرسمية التركية)، والتي يتمّ إرسال معظمها إلى مناطق الحكومة، عبر معبر "أبو زندين" قرب مدينة "الباب"، أو إلى الشمال الشرقي عبر "منبج" و"جرابلس".

كما أنّ معبر "سيمالكا" مع كردستان العراق نشطٌ أيضاً، ويتمّ من خلاله استيراد السلع التركية والإيرانية التي تنتشر فى الأسواق. إشكاليّات المعابر الحدودية، وتلك التي على خطوط التماس مترابطة ومتداخلة. فما الذي يمكن أن تفعله "الإدارة الذاتية" بالنفط المستخرج أو بالقمح الذي تنتجه، وتجعله موارد مالية تغطي النفقات الكبيرة لموظفيها؟. فالعقوبات تمنع بيع النفط السوري وإجراءات "الإفراط فى الالتزامات" التي ترافقها تمنع العمليات التجارية الرسمية. تهريبٌ عبر الحدود الدولية إلى تركيا أو عبر معابر خطوط التماس إلى مناطق الحكومة أو الى مناطق المعارضة؟. هكذا نجد فى إدلب "النصرة" محطّات وقود تبيع محروقات "كرديّة"!. ونجد الصادرات السورية الرسمية إلى تركيا ترتفع إلى 200 مليون دولار سنويّاً.

وبالعودة إلى بادئ ذي بدء.. في عام 2020 اندلعت "حرب مسودات" في نيويورك، بين واشنطن وحلفائها من جهة، وموسكو وشركائها من جهة أخرى، استقرت على إصدار القرار (2533)،  الذي ألغي بموجبه العمل عبر معبر اليعربية مع كردستان العراق، وحُصر الوصول بمعبر واحد، وهو معبر "باب الهوى" الذي يخدم سكان شمال غرب سوريا، ومن حينها تستخدم المنظمات الإنسانية في شرق سوريا معبر "سيمالكا" مع كردستان لتمرير المساعدات، ولا تدخل عبر هذا المعبر أي مساعدات أممية. ومع بدء العدّ التنازلي لصلاحية هذا القرار، أشاعت روسيا أنها ستصوت ضد تمديد القرار كي ترسل الأمم المتحدة مساعداتها عبر دمشق، ضمن تصوّر روسي واسع يدفع باتجاه "شرعنة التعامل مع الحكومة السورية". ثم مع انتهاء التفويض الأممي لإرسال المساعدات تزايدت التحذيرات من وقوع كارثة إنسانية حال إغلاق المعبر، الذي بات شريان حياة الملايين الوحيد، الذي تمرّ عبره شهرياً قرابة ألف شاحنة محمَّلة بالمساعدات، بينما تعيش مئات آلاف العائلات النازحة منذ سنوات، على طول الحدود مع تركيا في منطقة حرب نشطة، تحت وطأة ظروف إنسانية ومعيشية كارثية. 

ووسط توترات متصاعدة بين روسيا والدول الغربية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار (2642) لتمديد العمل بآلية إدخال المساعدات عبر الحدود التركية إلى سوريا لمدة ستة أشهر، مع إمكانية تمديده لمدة ستة أشهر إضافية، وهذا سيقتضي اتخاذ قرار منفصل. الولايات المتحدة من جانبها وصفت القرار بأنه ضعيف، وبرر ريتشارد ميلز، نائب مندوبها لدى الأمم المتحدة، تمريره، بأن الفشل سيترك السوريين بدون بطانيات أو وقود للتدفئة في الشتاء، لكنه هاجم روسيا وقال، دون أن يسمّها، إن أحد أعضاء مجلس الأمن يأخذ المجلس رهينة.

نظام الأسد أبدى ارتياحاً لصدور القرار وقال مندوبه في الأمم المتحدة، بسام صباغ: "إن جولات التفاوض أسفرت عن إدراج الكهرباء ضمن مشاريع الإنعاش المبكر في القرار وهي المرة الأولى". في هذا الوقت أكد مجلس الأمن أنّ ما حدث يجسد الصراع السياسي في الوضع السوري الإنساني، فاستعمال روسيا حق النقض أصبح ابتزازاً واضحاً، ويبين نجاحها في الضغط على الدول الأوروبية لتمرير قراراتها، مشيراً إلى أنّ أغلب المشاريع التي ترتبط بها المنظمات السورية المحلية مع الأمم المتحدة تحتاج لتخطيط يتجاوز السنة للتمكن من توفير الأمور اللوجيستية وإدخال المساعدات من المعبر وتوزيعها.

أخيراً.. قد يصوّر نظام الأسد أنّ إغلاق المعابر الإنسانيّة ومراجعة آليّات العقوبات هو "انتصار" له ولشرعيّة مؤسّسات الدولة. وقد يصوّر آخرون أنّ ذلك "هزيمة" لهم. لكن يبقى التساؤل مشروعاً ومحقاً عمّا إذا ما كانت "الثورة" أفضل، والقمع أقلّ، لو بقيت السفارات وطواقمها متواجدة في سوريا شاهدة على الأحداث الجسيمة؟ وكذلك التساؤل عمّن استفاد من الإجراءات الأحاديّة الجانب، وهل استمرارها لسنوات أضعف السلطة أم زاد من سيطرتها؟ وعمّا إذا كان شعبٌ أضحى أغلبيّة أبنائه يرزحون تحت خطّ الفقر الأدنى قادراً على مواجهة النظام السوري أو سلطات الأمر الواقع بالطبع؟

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!