-
روسيا من سياسية الدفاع إلى احتلال أوكرانيا
شكلت روسيا كدولة إمبريالية صاعدة نموذجاً يتعلّق بعامل "الإرادة"، كرغبة معلنة للتموضع في نطاق الدول العظمى كوريثة للاتحاد السوفياتي رغم استقلال العديد من الجمهوريات التي كان بعضها يمثل ظهيراً قوياً لموسكو، خصيصاً في بعض قطاعات الاقتصاد والتكنولوجيا.
ولعب نجاح مؤسسات الدولة والنخب الروسية في إعادة بناء المقومات المعنوية للدولة عند الرأي العام عبر إحياء الشعور القومي والكرامة الوطنية، وبوابة القوة العسكرية الروسية، والرواج الكبير للأسلحة الروسية ومواقعها (فنياً، سياسياً، ومالياً)، حيث إعادة النظر في سياستها الدفاعية، خاصة في الأمن القومي، على ضرورة التحوّل إلى نموذج التنمية القائم على الابتكارات وتحديث الجيش والاستخبارات ورفع مستوى التعليم وإطالة مستوى عمر المواطنين وتصحيح أوجه خلل الاقتصاد ورفع القدرات الدفاعية واعتمادها في الدفاع عن المصالح القومية الروسية.
تعدّ روسيا ثاني دولة مصدّرة للسلاح، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وحققت مبيعاتها نمواً ملحوظاً في العام 2018، لتصل إلى (16) مليار دولار تقريباً، وتنطلق روسيا في بناء سياستها الدفاعية من افتراض تزايد التهديدات والصراعات الإقليمية في نطاق مصالحها الاستراتيجية الحيوية، حيث وصلت ميزانية الدفاع الروسية في العام 2020، إلى (200) مليار دولار، وهو ما استدعى رفع الناتج المحلي نحو 5 تريليون دولار، واعتمدت ميزانية في العام 2018، لمخصصات الدفاع أقل من (60) مليار دولار، وأعدت وزارة الدفاع الروسية برنامج (sAb) من المفترض أن يكون لسنوات من 2018 إلى 2025، لكن في العام 2017، تقرر تمديد برنامج التسليح إلى عشر سنوات حتى العام 2027، ويبلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي في البرنامج (304) مليار دولار أمريكي، وحصّة المؤسسات الأمنية، مثل جهاز الأمن الفيدرالي والحرس الوطنية الروسي ووزارة الطوارئ، أكثر من (48,1) مليار دولار أمريكي، بنسبة (50-60 بالمئة) فقط من ميزانية التسلّح العسكري للعام 2020.
وأكدت تقارير مجلة السياسية الدولية المصرية في العدد (219)، الشهر الأول من العام 2020، تحولات استراتيجية على خريطة السياسية الدولية (عودة القيصر) أن القوات المسلحة حصلت على أكثر من (1500) طائرة متعددة الأغراض، ونحو (200) نظام دفاع جوي، وأنتجت (400) صاروخ باليستي، و(8) غواصات مزودة بصواريخ استراتيجية، و(20) غواصة متعددة الأغراض، و(50) دبابة ذاتية، و(100) قمر صناعي.
وإذا كانت عودة روسيا إلى الملعب الإقليمي والدولي من البوابة السورية، فهو يقدم دليلاً على تصاعد قوتها ودورها في حلبة المنافسة العالمية وتأكيد مكانتها كقوة كبرى قادرة على حماية مصالحها، فتصاعد دورها السياسي والعسكري يعدّ أحد أبعاد السياسات الهادفة لوضعها في مكانتها كقوة كبرى فاعلة، وكسر حلقات التطويق والضغوط الأمريكية عليها، خاصة تلك المتعلقة بالعقوبات المتجددة وتوسيعها من جانب واشنطن وحلفائها الأوروبيين والآسيويين، منذ آذار العام 2014، والتي تم تعميقها وتوسيعها في شباط وآذار 2022، بسبب العدوان والاحتلال الروسي لأجزاء واسعة من دولة أوكرانية، واتجاه جيشها نحو العاصمة كييف، لتغير النظام السياسي فيها.
فهذا العدوان واحتلال أراضي دولة ذات سيادة يأتي بعد الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك في روسيا يغير الوضع في الأزمة الأوكرانية، وما أفرزه من أوضاع استمرت مجمدة منذ ثماني سنوات.
وجاء ضم جزيرة القرم، وتعزيز الوجود في البحر المتوسط، من خلال القواعد البحرية الروسية الموجودة في سوريا "طرطوس واللاذقية"، كممر وحيد للبحر الأسود، حيث أهم الأساطيل الروسية في شبه جزيرة القرم، وهو ما تضمنته العقيدة البحرية الجديدة التي صدق عليها الرئيس بوتين في تموز من العام 2015، والتي نصّت على ضمان وجود عسكري بحري دائم لروسيا من البحر المتوسط، وتعزيز المواقع الاستراتيجية الروسية في البحر الأسود، رداً على تحركات الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود بسبب الأزمة الأوكرانية الممتدة منذ العام 2014، ودخولها منذ بداية العام الجاري مداراً عسكرياً وسياسياً جديداً بعيداً عن وضعيتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث انضمت (المجر، التشيك، وبولندا) في العام 1999، و(إستونيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، لتيوانيا، لاتفيا، وبلغاريا) في العام 2004، والجبل الأسود في العام 2017، ومقدونيا الشمالية في العام 2020.
ورغم كل حراك روسيا العالمي باتجاه دول منظمة شنغهاي والبريكس، وفي مقدمتها الصين، ضد الهيمنة الأمريكية، انعكس ذلك بالتخلّي عن الدولار في التعاملات التجارية، وفي صفقات الأسلحة فيما بينها، وتأسيس بنك بريكس للتنمية لتمويل المشاريع التنموية في الدول الأعضاء، وصندوق الاحتياطي النقدي لمواجهة آثار التقلبات في أسواق المال، بهدف تطوير مؤسسات بديلة للبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي.
ولم تنعكس دبلوماسية روسيا تلك في تصويت الأمم المتحدة على دعم القرار المناهض لروسيا، حيث صوتت (141) دولة مع القرار، وخمس دول ضد القرار، ووقفت على الحياد (35) دولة، بسبب العدوان الروسي على أوكرانيا.
ويضاف لذلك حسابات الصراع في سوق الطاقة العالمية، فروسيا عملاق في مجال الطاقة، فهي ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، وأكبر منتج ومصدر للغاز، وتستحوذ على ثلث الاحتياط العالمي من الغاز، كما تقيم الشركات الروسية العاملة في مجال الطاقة شركات واسعة مع العديد من الشركات في مختلف أنحاء العالم، في (أوروبا، آسيا، أمريكا اللاتينية، الشرق الأوسط، وإفريقيا)، ويتضمن ذلك شركاء تقليديين لواشنطن.
وتسعى الولايات المتحدة، ليس فقط إلى عرقلة التمدد والهيمنة الروسية على سوق الطاقة، ولكن لانتزاع بعض هذه الأسواق في ضوء دخولها كمصدر في سوق الطاقة، ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، في تقريرها الذي نشر في 21 نيسان 2016، فإنّ ثورة الغاز الصخري جعلت من الولايات المتحدة مصدراً مهماً لتصدير الغاز المسال إلى باقي دول العالم، خاصة أوروبا، التي تعد أهم الزبائن للغاز الروسي، ووقعت شركة "شينير" الأمريكية عقوداً طويلة الأجل لتوريد الغاز المسال مع شركات أوروبية وآسيوية.
وكان قد احتدم التنافس الأمريكي - الروسي حول السوق الأوروبية التي تعد الأضخم والأقرب لواشنطن. خاصة في ضوء التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وبروكسل، كما أنّها أكبر وأهم الأسواق الروسية.
إنّ العقوبات التي اتّخذها الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول العالمية، يهدّد استقرار روسيا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حيث عملت واشنطن على عرقلة مشاريع نقل الغاز الروسي لأوروبا، ومنها مشروع "السيل الشمالي 2".
وسبق أن نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في وقف مشروع "السيل الجنوبي" في نهاية العام 2014، المشترك بين شركة "جازبروم" الروسية، وشركات إيطالية وألمانية لنقل واردات الغاز الروسي مباشرة إلى دول جنوب أوروبا، عبر قاع البحر الأسود، دون المرور بدول الترانزيت، مما أدى إلى أضرار كبيرة للشركات المعنية وللدول التي كانت من المفترض أن يمر بها، وفي مقدمتها بلغاريا.
وتمارس واشنطن ضغوطاً على دول منظمة أوبك، وخاصة السعودية، التي تقع في المرتبة الثانية عالمياً في حجم الإنتاج بعد روسيا، والأولى في تصدير النفط، لعرقلة التوافقات التي بينهما حول خفض الإنتاج لتحسين أسعار النفط.
وبالمقابل، كانت روسيا قد كثّفت جهودها للمحافظة على الشراكة الروسية - السعودية في سوق الطاقة من خلال صيغة "أوبك+"، ودعم حضورها في السوق الأوروبية من خلال خط "السيل التركي" عبر تركيا إلى جنوب أوروبا، و"السيل الشمالي 2" بالتنسيق مع ألمانيا، إلى جانب دفع التعاون مع الصين في هذه المرحلة من العقوبات، وغيرها من الأسواق الآسيوية الكبرى للغاز.
وفي عقوبات العام 2014، نظمت الولايات المتحدة الأمريكية عملية إغراق لأسواق البترول، بالتنسيق مع بعض دول "أوبك" بسبب سيطرتها على جزيرة القرم، فقد تكبد الاقتصاد الروسي خسائر فادحة نتيجة ذلك في النمو السلبي للاقتصاد بعدة نقاط مئوية في عامي 2015 و2016، قبل أن يعاود النمو من جديد في العام 2017، بمعدلات أقل من السابقة على الأزمة، ولولا ما يطلق عليه "مانع الصدمات" القوي، المتمثل في الاحتياطات الروسية الكبيرة (500 مليار دولار)، لكانت النتائج أسوأ، علماً بأن روسيا خسرت في تلك الفترة (150 مليار دولار) من احتياطاتها التي انخفضت إلى (350 مليار دولار)، واستغرقت عدة سنوات حتى تعود إلى مستواها السابق.
أخيراً.. رغم النجاحات التي حققتها روسيا خلال العقدين الماضين من استعادة مكانتها كدول كبرى في العالم وبناء تحالفات وشركات مع (الصين، مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للأمن والتعاون)، واستعادة نفوذها الدولي، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ودورها في سوريا، وعلاقاتها مع (مصر، العراق، دول الخليج، وتركيا)، إلا أنّها في العدوان على أوكرانيا واحتلالها أجزاء واسعة من أراضيها تكون قد وضعت ذاتها خارج كل الإنجازات، وعادت إلى مرحلة العقوبات الشديدة في رد الفعل الأولي من دول العالم.
بالإضافة إلى قرار المدّعي العام بمحكمة الجنايات الدولية بفتح تحقيق بالجرائم المرتكبة في أوكرانيا بطلب رسمي من الحكومة الأوكرانية لمحكمة الجنايات الدولية للقيام بالتحقيق وقبولها بنتائجه.
ليفانت - ماهر إسماعيل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!