-
دفاعاً عن تركيا
عام 2003 ومع بدء الحرب الأميركية على العراق، بدا واضحاً أن موجات من المهجّرين العراقيين ستبدأ بالوصول إلى سوريا، بحكم موقعها الجغرافي، وعلاقة القربى التاريخية بين البلدين، وهذا ما حدث فعلاً مع اشتداد المعارك لاحقاً. سألت رئيس الوزراء السوري الأسبق ناجي عطري خلال ندوة عُقدت في مقرّ رئاسة الوزراء عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية، لاستقبال اللاجئين العراقيين، فأجاب عطري حرفياً: العراقيون أخوتنا، سوريا بلدهم الثاني، وبيوتنا بيوتهم.
طبعاً هذا الكلام يحتلّ موقعه عنواناً رئيساً في الصحف الرسمية وغير الرسمية أيضاً، فهو يحمل معنى إنسانياً راقياً، لكنه سوف يحيلنا لاحقاً إلى مجموعة من الأزمات التي وجدت الحكومة السورية نفسها في مواجهتها، إذ لم تستطع إيجاد حلول للزيادة السكانية المفاجئة التي طرأت على العاصمة دمشق مثلاً، والتي كانت تعاني اكتظاظاً و بطالة، وإلى ما هنالك من مشاكل تعاني منها عادة المدن الكبرى، وأعتقد جازماً، أنه وحتى وقتنا الحالي، فإن أياً من الحكومات السورية المتعاقبة لم تمتلك إحصائية دقيقة لأعداد العراقيين الذين وفدوا إلى سوريا، فالحدود كانت مفتوحة على مصراعيها.
الأمر نفسه حدث فيما بعد معنا نحن السوريين، حين فرضت الظروف المأساوية، التي عشناها بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة السورية، وما زلنا نعيشها، هجرةً جماعية، ونزوحاً غير مسبوق، فغادر ملايين الأشخاص سوريا، ليحطوا رحالهم في بلدان مختلفة من العالم، وقد تحمّلت تركيا، كما هو معروف، العبء الأكبر، و استقبلت لأسباب جغرافية وإيديولوجية ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجئ سوري، توزعوا على مختلف المناطق والمدن التركية، و كانت الحصة الأكبر، على ما يبدو، من نصيب مدينة إستنبول، وعلى غرار ما فعله ناجي عطري في رده المقتضب على سؤالي، فقد لجأ رئيس الوزراء التركي، آنذاك،
الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان لاستخدامٍ له دلالات أبعد، وأكثر تأثيراً من الناحية العاطفية، فوصف ملايين السوريين الوافدين إلى بلاده بالمهاجرين، معتبراً الشعب التركي أنصاراً، في استعادة لهجرة الرسول محمد وصحبه من مكة إلى المدينة، بعد أن ضيقت قريش الحصار عليهم، في بداية الدعوة النبوية. وقد وجد ذلك الاستخدام العاطفي صدى واسعاً لدى السوريين، الذين انتابتهم مشاعر خاصة، و استهلكوا الكثير من المقالات والكتب، ربما، في الثناء على ما قاله السيد رجب طيب إردوغان، و دخلوا تركيا آمنين مطمئنين. و للأمانة، فإن سورياً واحداً لم يتعرض لأي نوع من المضايقة خلال السنتين الأوليين وربما السنوات الثلاث، وصولاً إلى نهايات العام 2014 و بداية العام 2015 حين قرر الرئيس إردوغان استخدام هذا الكم الهائل من اللاجئين للضغط على الدول الأوروبية، التي لا تحبه، و تتهمه صراحة بالمسؤولية عن نشوء تنظيم داعش، أو على الأقل مساعدة ذلك التنظيم الإرهابي، في البقاء والتمدد، إذ سوف يفتح الرئيس إردوغان الأبواب الخلفية لبلاده لتدفق مئات آلاف اللاجئين باتجاه أوروبا، في موجة هجرة، وصفتها الأمم المتحدة، وقتها، بأنه الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وقدرت الأمم المتحدة، عدد اللاجئين الذين ركبوا البحر متسللين إلى أوروبا، بما يقارب المليون ونصف المليون مهاجر، كان غالبيتهم من السوريين.
وانتشرت، وتحت أنظار السلطات التركية، بل وبتسهيل منها، شبكات تهريب البشر على الشواطئ التركية، إلى أن تحول المتوسط، كما سيوصف أدبياً، إلى مقبرة المهاجرين، بسبب العدد الكبير من الأشخاص الذين قضوا نحبهم وهم يحاولون العبور إلى أرض الميعاد. توقفت موجة الهجرة تلك فجأة، إعلامياً على الأقل، بعد أن تعهدت الدول الأوروربية بدفع مليارات الدولارات للدولة التركية، كي تعين الأنصار على استقبال ذلك العدد الكبير من المهاجرين.
خلال الفترة الماضية طرأ طارئ جديد على الساحة السياسية التركية، فتغيرت المعادلة، حين خسر العدالة والتنمية الحاكم ولاية استنبول لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض، وعلى الفور بدأ ما كان يخشى منه السوريون بالحدوث، فقد قرر الوالي الجديد أنه لابد من تنظيم الفوضى التي أحدثها الحزب الحاكم فيما يخص موضوع اللاجئين السوريين بشكل خاص، وحين نتحدث عن فوضى، فنحن لا نقصد الإساءة إلى الأنصار أو رئيسهم، لكنه توصيف يليق بوجود آلاف السوريين، سواء في مدينة استنبول أم في سواها من المدن دون أية ورقة إقامة، أو أي شيء يثبت وجودهم داخل أراضي الجمهورية التركية، وهذه حقيقة.
وهذا التنظيم سوف يستوجب ملاحقة المخالفين، وربما ترحيلهم، وهذا ما حدث، وإن كان عدد من المرحلين، الذين وصلوا إلى بعض مناطق الشمال السوري، كانوا يحملون أوراق إقامة نظامية، إلا أنها موجة سياسية ينبغي التعامل معها، دون تشنج بطبيعة الحال. وسوف تظهر تباعاً موجة عنصرية، كتلك التي شهدناها في لبنان مثلاً، بفعل تحريض سياسي ممنهج تولاه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، والتي قادت بعض المتطرفين العنصريين إلى مهاجمة اللاجئين السوريين والاعتداء عليهم، و هذا كله مفهوم تماماً، وقد مرّ به لاجئون غير السوريين في دول أخرى، وتم توثيقه من قبل منظمات دولية. لأن تحويل اللاجئين إلى ورقة ضغط سياسي في يد هذا الحزب أو ذاك، أمر شائع جداً. وخاصة حين لا يتم التعامل مع أمر اللاجئين باحترافية، كما حدث ويحدث في بعض البلدان ومنها تركيا ولبنان.
على سبيل المثال، أمضيت في مصر سنتين والتقيت بمثات السوريين هناك، والذين لا يحملون أية وثيقة إقامة أو إثبات وجود في مصر، و كانت السلطات المصرية تعتمد في توثيق أعداد اللاجئين السوريين في أراضيها على بيانات المطارات فقط.
والآن.. هل نتوقع أن تقوم السلطات التركية بطرد أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري من أراضيها، وإعادتهم إلى بلدهم؟
الأمر نظرياً وعملياً صعب وربما مستحيل التحقق، لكن هذا لا يمنع من أن اللاجئين سوف يظلون ورقة ضغط، تلعب بها الأطراف السياسية التركية المختلفة، و غير التركية أيضاً، بانتظار حلّ نهائي لمأساتنا المستمرة منذ أكثر من ثماني سنوات.
دفاعاً عن تركيا
دفاعاً عن تركيا
دفاعاً عن تركيا
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!