الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
المجتمعات المنهكة وإعادة إنتاج الاستبداد والعنف
جاد الله الجباعي

أوصلت جميع الدكتاتوريات العسكرية التي تحولت إلى طغيان متوحش مجتمعاتها إلى حالة الإنهاك الاجتماعي، ففقدت تلك المجتمعات مناعتها وتلاشت حركيتها وشُلّت فاعليتها وانفرط عقدها وتشتت زُمراً وحشوداً وطوائف وعصبيات لا تملك زمام أمرها ولا تقوى على حماية أنفسها وتحقيق أمنها ولا تفلح في تدبير شؤونها بدون رعاية و”حماية” المستبدين والطغاة أنفسهم والتعلّق المازوشي بهم. 


الكثير من المجتمعات الشرقية المتعَبة أصلاً، بسبب الاستبداد السياسي والديني المزمن، ومجتمعنا السوري منها باتت مجتمعات مُنهَكة بفعل تلك الديكتاتوريات، فالإفقار والحرمان والتهميش والإهمال الذي لحق بها، والنهب المستمر لمواردها، والتسلّط الذي أغلق المجال العام أمامها، والقهر السياسي والقمع العاري المنفلت من أيّ قيد أو شرط إنساني أو أخلاقي أو قانوني، والذي لم يقف عند حدود ملاحقة المخالفين والمعارضين، والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية من ذوي الميول الديمقراطية والليبرالية الحديثة، وإفراغ الساحة السياسية منهم وحسب، بل طال جذورهم الاجتماعية من أجل كسر مقاومة الناس وإرادتهم واستقلالهم، وهدر حصانة المجتمع والوطن لصالح حصانة السلطة الشمولية، وعمم ثقافة الطاعة والامتثال والخوف من عقاب الحاكم، الذي لا بد أن يقع وإن تأخّر، أو الطمع في مغنمه الذي ينُتظر أن يحصل، وهي ثقافة ضاربة الجذور في ماضي هذه المجتمعات وتراثها السياسي والديني والأخلاقي وتقاليدها وآدابها العامة وذاكرتها الجمعية، مما أدّى إلى تبدّد المجتمع إلى أفراد بلا فردية -الفردية باتت صفة الحاكم وحده، أما الآخرون فكلهم جموع أو جماهير حسب تحليل حنا أرندت- وأضعف روح التضامن والتكافل الاجتماعي بينهم، وأوهن الإرادة الجماعية وغيّب معنى الصالح العام واحترام القانون والحق العام، وبالتالي الدولة، باعتبار الدولة والقانون العام هما أعم العام.


وهو ما أدّى إلى شخصنة السلطة وغياب التمييز بين الدولة والسلطة وبين الشخص والمنصب ما دام ظلّ صورة الحاكم يغطيه ويطغى على صورة الدولة ليصبح هو الدولة والدولة هو، فإن سقط الحاكم سقطت الدولة، وإن بقي الحاكم بقيت الدولة. وهذا أمر واقع بشكل عام في هذه المجتمعات، نظراً لغياب الدولة الوطنية في الأصل، فالسلطة السياسية المستبدة أكلت جنين الدولة الناشئة مع المرحلة الليبرالية بشكل مبكر، وحولت مؤسساتها وهيئاتها إلى مؤسسات صورية تعمل بمقتضى شهوة الحاكم وتقتصر وظيفتها على تلميع صورة الحكم، وتواطأت مع الاستبداد الديني والاجتماعي والزعامات الاجتماعية التقليدية والثقافة الأبوية على إجهاض جنين المجتمع المدني، فيما أكملت مرحلة التحويل الاشتراكي مراسم دفنه مع الأخلاق والثقافة الليبرالية البرجوازية الحديثة ذات الطابع الغربي التي لا تتوافق حسب رؤيتها مع قيم وثقافة الشرق المسلم وأخلاقه وأعرافه وشريعته، ولا مع الأيديولوجيا الاشتراكية التي عملت بوحيها على تأميم الشركات والملكيات الخاصة وأدمَجَتها في القطاع العام. وحولت القطاع العام إلى جيش احتياطي للسلطة ينخره الفساد الإداري والمالي بعدما ولّت إدارته إلى شبكة من المحاسيب تتحدّد مناصبها ومكاسبها مسبقاً حسب درجة القرب والولاء من السلطة السياسية وأجهزتها الأمنية والحزبية، لتيسّر عملية نهبه والتحكم بمصائر موظفيه وكوادره، فقتلت روح الإبداع والحريات الفردية والتنافس وقيم العمل والثروة، وهدرت الطاقات والقدرات الفردية، ووزعت الفقر على الجميع تحت شعار المساواة والعدالة الاجتماعية المفرغة من أي معنى إيجابي للعدالة والمساواة.


فقد أدى تضخم القطاع العام المدني والعسكري، بشكل خاص، إلى إفراغ الريف من سكانه ومن شبابه المتعلم وشبه المتعلم، وإلى اختلال العلاقة الاقتصادية بين المدينة والريف، وإهمال الثروة الزراعية بحكم تركز مؤسسات القطاع العام الرئيسة في العاصمة ومراكز المدن الكبرى، وتحويله إلى مستوعب للعمالة الوافدة من الريف من جهة، وحلاً لمشكلة البطالة المتراكمة مع التزايد السكاني من جهة ثانية.


وهو ما أدى بدوره إلى ترييف المدن، ديمغرافياً وثقافياً، وانتشار ظاهرة السكن العشوائي وأحزمة الصفيح والبؤس، التي نجحت السلطة الاستبدادية في استغلالها وتحويلها إلى أسوار أمنية لها. كما نجح متنفّذوها الكبار في التغلغل في ثنايا البرجوازية المدينية، وفرضوا أنفسهم شركاء إجباريين لها في العائد والربحية مقابل الحماية من المنافسين وتيسير الأعمال وتغطية المخالفات القانونية إن لم يكونوا شركاء في رأس المال، بعد أن استخداموا سطوتهم أو استغلال مناصبهم، فشكلوا بذلك شبكات اقتصادية وتجارية ذات طابع مافيوي منفلتة من أي قانون، مما أفقد البرجوازية المدينية دورها الوطني في التنمية الاقتصادية والتحديث الاجتماعي، وغيَّب إمكانيّة أن تلعب هذه البرجوازية أي دور سياسي أو اجتماعي خارج فلك السلطة أو بمعارضتها.


ومع سيطرة السلطة المستبدّة على التعليم والإعلام والثقافة، وتعويم خطابها السياسي وأيديولوجيتها الحزبية تكون قد أحكمت قبضتها على جميع المنافذ الحيوية في الدولة والمجتمع، وهيمنت على الدولة والثروة، وأعلنت انتصارها على شعوبها وهزيمتها لها كتعويض عن هزائمها أمام التحدي الخارجي، وأكملت بذلك عملية إنهاك المجتمع وهدر الإنسان.


ومع ديمومة الإنهاك واستمراره لوقت طويل، أضحى الشعب مقتنعاً بعجزه، متماهياً مع المستبد ومتعايشاً مع صورة الذات المغلوبة على أمرها، ومع هزيمته التي تذكره بها السلطة المستبدة مع كل استحقاق أو مناسبة من مناسباتها وأعيادها واحتفالاتها، بعدما حولت المجتمع إلى حشود من الجماهير ووضعتها في حالة عداء دائم وحرب موهومة على العالم “المتآمر دوماً” على قضاياها القومية ومقدساتها الدينية، ولاحقت المعارضين وحاكمتهم بحجة المساس بالذات القومية وإضعاف الشعور القومي بعدما أصبحت الذات القومية هي ذات المستبد نفسه.


وهذا الشعور بالانتهاك والعجز عن رد الظلم ومقاومة الظالم، دفع الناس للبحث عن عزاء لها في الدين والأيديولوجيا الدينية الخلاصيّة التي أصبح الفضاء الاجتماعي خالياً لها، فازداد الطلب على الدين وازدادت الشروخ الطائفية في المجتمع وازداد انغلاق الطوائف على نفسها وازداد تعصّبها، وانقلب الشعور بالانتهاك والعجز إلى عنف مختزن ونزعة تدميريّة تجاه الذات وتجاه الآخر المختلف، وتم تحميل الحداثة والديمقراطية والحرية والليبرالية والعلمانية والاشتراكية المرصوفة كشعارات أيديولوجية خالية من أي معنى أو روح في خطاب السلطة المستبدة ويافطات أحزابها مسؤولية الفشل في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، وصعد نجم الإسلام السياسي مع فشل التجربة السوفيتية وانفراط عقد المعسكر الاشتراكي وقيام الثورة الإسلامية الإيرانية المترافقة مع سيطرة الأحزاب والقوى المحافظة على القرار السياسي في العديد من دول في الغرب المقابل، فازدادت عزلة الأحزاب والنخب السياسية وتلاشت الحركية الاجتماعية وسقط الرهان على أي تغيير سياسي أو انتقال ديمقراطي هادئ، وبات التغيير المرتقب رهن الزمن والانتظار والأقدار والتغيرات العالمية، أو التغيير ذو الطابع الانفجاري الذي لا يمكن التحكم به أو توقّع مساره.


يتساءل الكثيرون عن مستقبل الثورات الشبابية التي استلهمت صرخة البوعزيزي في سماء تونس، وكان لها الطابع الانفجاري المفاجئ بعد انتظار طويل، وهو سؤال حق لكنه يراد به باطل في كثير من الحالات، وخاصة عندما يأتي التساؤل من أصحاب الأيديولوجيات الثورية والعقائد الحزبية ذات الأنساق الفكرية المغلقة، لكنهم قلما يتساءلون عن الواقع الاجتماعي الذي انطلقت منه هذه الثورات، وعن المشهد السياسي الذي كانت تعيشه تلك الدول، وقلما يتساءلون عن مستقبل الاستبداد السياسي الشمولي والتوتاليتاريا التي تحولت إلى طغيان متوحش، وعن واقع مجتمعات الهدر، هدر الدم وهدر الكرامة وهدر الكيان وهدر الوطن وهدر الوعي وهدر الفكر(…) وهدر الإنسان الذي أجاد المفكر مصطفى حجازي في دراسته وتحليله في كتابه “الإنسان المهدور”.


وعن إمكانيّة الإصلاح السياسي أو التحول الديمقراطي في المجتمعات المنهكة التي أدمنت الاستبداد واعتادت حياة القهر والتماهي مع المستبد، حتى أصبحت في حالة من “العبودية الطوعية”، حسب وصف إيتان دو لا بويسي، وإذا كان من حق الجميع أن يتساءلوا عن مصائر أوطانهم ومستقبل أبنائهم، فمن واجبهم أن يتساءلوا أيضاً عن دورهم في حماية أوطانهم وصناعة مستقبل أبنائهم، وعن دورهم في وقف الهدر، ووقف نزيف الدم والحياة في المجتمعات التي انزلقت إلى العنف وحرب التدمير الذاتي، والسؤال عن مصدر ذلك العنف، وأين كانت تختزن كل هذه الطاقة التدميرية والغضب المكبوت في نفوس البشر ومن أين تتغذى، ولماذا لم يرغب الكثير من الناس بالحرية التي يكفي أن يرغبوا فيها حتى يحققوها حسب دو لا بويسي، إنما تحولوا إلى كتلة صامتة وصادمة في نفس الوقت.


سيبقى السؤال مفتوحاً والجواب معلقاً، إلى أن يصار إلى صياغته بطريقة صحيحة لا تستبطن الجواب مسبقاً في السؤال. فالسؤال أول المعرفة، فيما الأجوبة القارّة والقطعية مخدات لراحة العقل وراحة الضمير. 


 


ليفانت – جاد الله الجباعي 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!