-
القنابل البشريّة الناعمة
كثيرة هي الأدلة على أنّ تحويل الأطفال وقوداً للحروب أو عسكرتهم، إما بتغذية الحقد والرغبة في الانتقام، أو بالتنميط والأدلجة، تقضي على فرص إنقاذ البلدان التي ينتمون إليها، وتؤشر إلى أنها مهددة بالانهيار والانحدار. صدام حسين، مثلاً، وخلال الحصار والعقوبات، لطالما استخدم صور الأطفال الذين قضوا جراء نقص الدواء ليحرك مشاعر المجتمع الدولي لصالحه.
ولا تغيب عن الذاكرة صور جثث الأطفال الذين سقطوا في مناطق عدّة من سوريا بفعل استخدام النظام الأسلحة الكيماوية، والتي استغلت لتحقيق مكاسب سياسية. وفي الحقيقة يمكن استخدام الأطفال في مجموعة متنوعة من الأدوار: جنود وطهاة وسعاة وحمالون وجواسيس وكاشفو ألغام ورقيق جنسي وعمال قسريون وحتى قنابل بشرية. بطبيعة الحال عندما تندلع الحرب، يصبح الأطفال الحلقة الأضعف في غمارها. تطالهم الأعمال العدائية، فيقعون في مرمى مخاطر لا تحصى، حيث يعاني ما ينوف على واحد من كلّ عشرة أطفال حول العالم من النزاعات المسلحة في الوقت الحاضر. ورغم ما يكفله القانون لهم من حماية، ما تزال الأخطار تحدق بهم من كل جانب، تجندهم الجماعات المسلحة وتستغلهم، أو يتفرق شملهم عن عائلاتهم، أو تدفعهم الظروف إلى ترك بيوتهم، أو يُحرمون من التعليم، أو يُقتلون أو يُشوَّهون، أو يتعرضون لاعتداءات جنسية.
من أفغانستان إلى مالي، إلى جنوب السودان واليمن، وصولاً إلى سوريا. تغضّ الأطراف المتحاربة الطرف عن إحدى أهم وأبسط قواعد الحرب "حماية الأطفال". وهل ننسى صورة الطفل محمد الدرّة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية. أو شربات غولا، التي التقطت صورتها خلال الحرب الأفغانية، بعدما فقدت والديها جراء قصف صاروخي. طفلة استصرخت ضمير العالم بعينيها الخضراوين الذاهلتين وبجمالها النادر. بدورها صورة أيود غدت رمزاً للمجاعة في أفريقيا. وهو طفل سوداني أنهكه الجوع وتحول إلى هيكل عظمي، تتحلق حوله النسور وتتحين اللحظة لتنهشه. حدث هذا خلال الحرب التي عرفت بحرب جنوب السودان. أيضاً هناك صورة أشدّ إيلاماً التقطت عندما قصف الجيش الأمريكي قرية ترانغ بانغ في فيتنام الجنوبية عام 1972، عكست الرعب الذي تسببه الحرب. إذ نرى الطفلة كيم فوك وقد أصابها النابالم بحروق شديدة. الصورة دارت حول العالم، وحفزت انتقادات دولية وأحرجت الرئيس نيكسون.
وفي سوريا ألهبت صورُ الأطفال الجرحى والقتلى قلبَ العالم.. عمران يجلس في سيارة الإسعاف، وجهه مغطى بالغبار والدم، مذهولاً من صدمة الانفجار لا يدرك ما جرى له وحوله.. إيلان الكردي يرقد فاقداً الحياة على شاطئ بودروم التركي.. وتلك الجملة التي حزّت حلق العالم: "أتمنى خيمة".. ليست سوى أمنية بمناسبة حلول السنة الجديدة لطفلة سورية نازحة، وهي منكمشة تحت بطانية تكدست تحتها هي وإخوتها من شدة البرد.. أو ذاك المقطع المصور الذي استثار غضب الشارع السوري، والذي يخص طفلاً مختطفاً يتعرض للتعذيب بغية إجبار ذويه على دفع فدية كبيرة مقابل إعادته إليهم. ويظهر الطفل البالغ من العمر ست سنوات في الفيديو مستغيثاً: "مشان الله لا تضربوني".
بالتساوق مع ما سبق، أكد المدير الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أنّ مخيم الهول والمناطق المحيطة في شمال شرق سوريا تضم أكثر من 22 ألف طفل أجنبي، من 60 جنسية على الأقل، يقيمون في المخيمات والسجون، بالإضافة إلى آلاف الأطفال السوريين.
ووسط الخراب والدمار وتناسل الأزمات المتفرعة عن الحرب السورية، انتعشت النزعات الإجرامية والسادية داخل المجتمع المأزوم. جرائم لن يكون آخرها بالطبع العثور على جثة طفلة مرمية في مكبّ نفايات تل النصر في حمص، تدعى جوى استانبولي، ليتبين أن سبب الوفاة نزف حاد ناجم عن ضرب الرأس بآلة حادة!. لا شك المسألة أكبر من مجرد جريمة ارتكبها قاتل مجرّد من الإنسانية، بل هي علامة على أنّ القتل يكاد يغدو ثقافة وممارسة يومية، بينما الأطفال السوريون يدفعون ضريبة الأزمة العاصفة ببلادهم منذ أكثر من عقد من الزمن، وفق مختلف التقارير الأممية والحقوقية حول العالم. إذ صرحت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنَّ ما لا يقل عن 29017 طفلاً قد قتلوا في سوريا منذ اندلاع الحراك الشعبي، مؤكدة أنَّ السلطات الحاكمة لم تفشل فقط في تحقيق الحماية والاستقرار لأطفال سوريا، بل هي من نفذت أفظع الانتهاكات بحقهم، التي بلغت حدّ الجرائم ضد الإنسانية.
في المقابل أكد بو فيكتور نيلوند، ممثل المنظمة الأممية في سوريا، أنّ "حوالي خمسة ملايين طفل وُلِدوا في سوريا منذ عام 2011، ولم يعرفوا شيئاً سوى الحرب والنزاع". ولفت إلى أنّ معظم الأطفال في سوريا تظهر عليهم علامات الضيق النفسي، بما في ذلك القلق والحزن والتعب أو اضطرابات النوم المتكررة، الأمر الذي يعني أن النزاع المسلّح في سوريا ترك آثاراً نفسية لدى الأطفال، في ظلّ عدم وجود أرقامٍ دقيقة عن عدد الذين أصيب منهم بإعاقاتٍ دائمة، بينما يحتاج 5.8 مليون طفل سوري داخل البلاد وخارجها في البلدان المجاورة التي لجؤوا إليها مع عائلاتهم، يحتاجون للمساعدات المختلفة كالدعم النفسي والاجتماعي والرعاية الطبية والخدمات العامة والتعليم. علاوة على ضرورة تقديم المعالجة الكافية لتعافيهم من الصدمات التي أثّرت على حياتهم نتيجة الحرب. إذ بات الأطفال الذين يفترض أن يكونوا في المدارس وحدائق الألعاب، يستيقظون على أصوات القصف الجوي والمدفعي، بينما يعيشون في الحرمان والفقر المدقع. أما تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، فتشير إلى أنّ ثلث الأطفال السوريين حرموا من التعليم جراء الحرب، فيما حُرِم قسم كبير منهم من الخدمات الصحية الضرورية. وقالت: "إن 575 ألف طفل نزحوا من بيوتهم فقط خلال الفترة الممتدة بين الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2019 والأول من آذار/ مارس 2020".
نعم أرقام مفزعة تلك التي كشف عنها تقرير جديد لمنظمة "أنقذوا الأطفال"، الأرقام تتحدث عن أنّ أكثر من 1.2 مليار طفل، أيْ ما يفوق نصف أطفال العالم، يتعرّضون للخطر، خاصة منهم الفتيات. تأسيساً على ما تقدّم لا يبدو الوضع وردياً في المنطقة العربية، ففي قائمة 175 دولة في مؤشر "نهاية الطفولة" الذي يرتب البلدان حسب حماية الأطفال، توجد جلّ الدول العربية في مراكز متراجعة. جديرٌ ذكره أنه في عام 1982، أعلنت الأمم المتحدة الرابع من يونيو/حزيران في كلّ عام، يوماً عالمياً لضحايا العدوان من الأطفال الأبرياء في مناطق النزاع، وذلك من أجل الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين ضحايا العدوان الإسرائيلي. رغم ذلك فإنه في عام 2020 كان يعيش نحو 337 مليون طفل في مناطق تسيطر عليها مجموعات مسلحة أو قوات حكومية تقوم بتجنيد الأطفال، وهذا الرقم يعادل ثلاثة أضعاف ما كان عليه عام 1990.
وعليه العاقل يستطيع أن يستنتج، وبكل يقين، أنّ استهداف الأطفال إنْ بأرواحهم أو أمانهم الجسدي والمعيشي والنفسي، أو بتحويلهم "بضاعة" لدى تجار الحروب، يفخّخ مستقبل مجتمعات البلدان العربية الغارقة في النزاعات. ذلك أن ضحايا الحروب من الأطفال ما زالوا ورقة رائجة إعلامياً، وإنْ، وبكل أسف، لم تغيّر حتى تاريخه في معادلة أصحاب المصالح، دولياً وإقليمياً.
الكاتبة: عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!