-
الصّمت والسكوت ومطرقة الإصلاح.. العراق إلى أين؟
يضطر كثير منّا للسكوت إذا واجه حديثاً تملأه التفاهات والفراغات المتوالية كأنها عقارب السّاعة حين تعود لمكانها بعد دورةٍ كاملة، أو إذا انعدمت الجدوى من الرد على تلك الأحاديث بشيء مقنع حتماً؛ فالسكوت هو المفضل.
هناك أسئلة بحاجة لإجابة، أو يجب الإجابة عنها لكنها تبقى تنتظر، وغالباً تجد السكوت، أو يقال للسائل: لمَ سألت عنها؟
الآباء والمعلمون هم أكثر من يتعرضون لأسئلة شتى بحكم الواقع وطبيعة المجتمع، ولاحقاً رجال الدين ورجال السياسة؛ كونهم قدوة للبعض، وقادة لآخرين، ولهم آراء مسموعة ومحترمة طالما صنعت رأياً عاماً بين الشعب، وحرّكت العواطف والمشاعر، وأحياناً تسببت في إسالة الدماء من أجل قضية؛ سواء كانت تلك القضية باطلة أم صالحة، وكاذبة أم صادقة؛ إلاّ أنها في النهاية صنعت حراكاً لم يكن لولاها.
ومع ذلك نجد تلك القيادات والزعامات تؤثِر الصمت والسكوت الطويل إزاء مواقف حساسة وخطرة وغاية في الأهمية بالنسبة للوطن والمواطن. يصف الناس ذلك الصمت أحياناً بالخذلان، وأحياناً أخرى بالخيانة والأنانية وانعدام كل المبادئ والقيم والأخلاق.
ورغم عدم اعتراف البعض بالقيم الأخلاقية، ويعدّونها إحدى أدوات الذل في الصراع من أجل مقومات حياتية كريمة؛ لكن ذلك لا يتجاوز الوهم والوهن والتضليل في سبيل دحر قيم متعارف عليها، وتعاملات يومية نبيلة هي جوهر الأخلاق.
فتحية الصباح، والنظرة باحترام لبقية البشر، وعدم الغشّ في التعامل المادي والإنساني؛ هذه بعض من صفاتٍ أخلاقية لازمة وملازمة لمن يسعى لنشر المحبة والسلام والعدل، ضمن أقصر درب يسلكه الإنسان السليم كونه أحد صنّاع الحياة وبُناتها.
وأنبل قيم الأخلاق هو عدم السكوت عن الظلم وإنصاف كل من يسعى لمعرفة الحقيقة بأية طريقة ووسيلة تحفظ كرامة البشر، كونه مخلوق فوق جمادات الطبيعة، وأعلى بكل شيء من كل المخلوقات الأخرى. الإنسان باحث محب للمعرفة، ومن يجد في نفسه القدرة لإضاءة الدروب والبصائر؛ فعليه يقع الوزر الأكبر مهما تكلّف بذلك، ومهما عانى ما عانى لأنه يسلك طريق المصلحين وعمال الخير وسعاة السعادة.
من التاريخ تعلمنا أن الأنبياء والرسل والصالحين -لمن اعتقد بذلك وآمن- أنهم لم يبخلوا على أقوامهم بشيء من نور المعرفة، وأساس دعواتهم كانت إصلاحية نورانية لنشر الحقيقة؛ لم يعرفوا السكوت أبداً، ولا للصمت التجؤوا أمام الحق، وحليفهم كان الانتصار وإنْ بعد حين.
حتى فلاسفة الحياة بعمومهم كانت فلسفتهم معبرة عن روح تحمل السعادة، وتسعى للعدل، وإن طال أجل الفهم وإدراك معاني تلك اللغة، لكنها انتصرت بنشر الحقيقة، ولنقل بغلق صفحة ظلامية من صفحات التاريخ والحياة.
السؤال المهم جداً هو: لماذا هناك من يتعمد الصمت ولا يبالي، وهناك من يفرح حين يعم الصمت وكأنه سكون تام؟
هنا الإجابة متروكة للجميع ما عدا إشارة واحدة نقف عندها من خلال تساؤل آخر يتضمن إيضاحاً مجزوءاً وهو: هل ما زال البعض متيقناً أن الجهل هو الغالب، وتغييب القول باقٍ للأبد، وأن الحقائق تتمتع بالغموض، وتتوارى خلف ظِلال الضَّلالة؟
البعض صنع من الصمت تياراً متلاطماً من الخديعة، انطلق يجرجر الكائن البسيط، الإنسان المغلوب على أمره، وفقط مسموح له أن ينطق بكلمة واحدة من ثلاثة حروف: نعم!
شعارٌ كبير كان هناك: نفّذ ثمَّ ناقش، وتبعه شعار آخر: نفّذ ولا تناقش، وتطور أخيراً ليكون التنفيذ قبل أن يعلم به من يُنفذ.. وربما صَنَعت مافيات الخوف شعارات أخرى لم تصل إشعاراتها للأجهزة المتطورة عبر الأثير والموجات الكهرو- استغفالية.
صَمَتَ دهراً، ونطقَ كفراً؛ شعار يتردد بين الفينة والفينة، وهناك من يتّبع الكفر بكل حذافيره.. ولكن لماذا يُتّبع الكفر ويكون هو رأس المال في تجارة مجهولة المصير؟ هل تغيّر فنُّ الكلام وحواره، وأصبح خواراً تغلفه فلسفة تدّعي أنها سيدة العالم؟ أعتقد نعم؛ إنها اللغة الخشبية، ومماحكات الجدل السفسطائي من على شاشات الفضائيات، والحقد الدفين في غرف المخططات الهوجاء.
فلا صمتُ الحكماء ينفع، ولا سكوتُ الخائفين، وبين الأفكار واختلافها، ودورانها في الرؤوس، هناك قدرة تتجاوز مديات الأمس واليوم وغداً.
هذا هو حال العراق اليوم؛ المتصدي للإصلاح يُنعت بالخروج عن القانون، واللاعب المخادع يتسيّد جلسة الكذب والنفاق في محاولة أن يكون هو رأس الحربة في الملعب، متناسياً ماذا سجّل التاريخ عنه من قبل، وماذا ستتناقل الأجيال من أحاديث، ناهيك عن دوائر الإعلام بكل صنوفها وحروفها وألوانها.
سكتت ألسن الجماهير طويلاً، لكن أرواحها لم تصمت يوماً على أمل رؤية بصيص ضوء ولو بمقدار أمتار، كي ترى موضع القدم، تتمنى أن يكون القادم أفضل، لكن القادم يزداد سوءاً كل يوم إلى حدّ انفجار الألسن بهتاف واحد: نريد الخلاص. فهل من معتبر يعتبر، وهل يضمحل الظلم والظلام تحت مطرقة الإصلاح؟
لكن المضحك في خبايا اللعبة قول الظالم أنه مظلوم، وذرب اللسان يدعي السكوت حفاظاً على وحدة اللحمة؛ من أجل العدل الذي ركنه منذ سنوات طمعاً بلقمة تأتيه بملعقة ذهبية عديمة الصدأ، كي لا تصدأ معدته أبد الدهر، لكنه نسي روحه وعقله الصدئين منذ أول وليمة سحت.
ليفانت - سعد الساعدي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!