الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • الراقصة المعاصرة سجى النوري: في الوطن العربي نحن مجرد آلات مرنة لتعبئة الفراغ

الراقصة المعاصرة سجى النوري: في الوطن العربي نحن مجرد آلات مرنة لتعبئة الفراغ
ميرنا الرشيد

الجسد يُغلف ويُضرب ويُعرى ويوصم ويُشتم ويُمتدح، أياً يكن ما يُفعل به فهو من أجل تأطير حامله ورسم مسار توجهه، بغية السيطرة عليه تمهيداً لهدّه، لا يُترك هذا الجسد من دون صيغة يُقفل بداخلها.

أن يكون على هواه، فهذا مصدر قلق للمجتمع، أن يستكشف ألمه، ويدرك سعادته، وينصت لتدفق وخفوت طاقته، فهذا يستدعي قوانين جميع السلطات للجمه وإسكات نبضه.

لماذا يُحَدد الإنسان بجسده؟ وهل يمثل الجسد الإنسان؟

تقول إحدى مانترات التأمل: "أنا لست الجسد، كما أنني لست العقل أيضاً". فماذا نحن إذن؟ إن تكرار هذه المانترا مرات غير محددة له فعل الاحتراق الداخلي، ويمنح القدرة على التحول النفسي، وحلحلة ارتباط الإنسان المقيد بالواقع المحسوس للوصول إلى قنوات الاتصال مع البعد الكوني، تماماً كما يحدث عندما يرقص الجسد متجاوزاً كل ما هو ضيق ولحظي ومُعرقِل.

 

في الرقص، ترى العين الجسد، لكن الجسد هنا على الرغم من تحركه ضمن مساحة مكانية مرئية ومحددة، فإنه بالنسبة إلى الراقصة والراقص يكون قد تحرر أو ربما تحلل، وعَبَر بالألم والحزن والغضب والنوايا والأفكار إلى مساحة لا حدود لها ندركها لكننا لا نراها.

* حدثينا عن نفسك، وما الذي أوصلك إلى احتراف الرقص؟

اسمي سجى نوري وعمري 28 عاماً، وُلدت في حي أور بمدينة بغداد من أب كردي من السليمانية. عندما كنت في العاشرة من عمري، وبسبب ظروف الحرب في العراق، قدمنا إلى دمشق عام 2004، وتنقلنا في العديد من أحيائها. لم تكن إقامتي فيها سهلة، فقد تعرضت للتنمر والسخرية بسب لهجتي، وهذا ما منعني من التحدث بها طيلة المرحلة الإعدادية كي أندمج بالمجتمع السوري، حتى أنني كنت أسمع من أصدقاء وصديقات المدرسة أنني سبب غلاء الخبز والأكل في سوريا.

يعود اهتمامي بالرقص إلى أيام نشأتي في بلدي، فقد كانت أمي ترغب بأن أتعلم الباليه، إلا أن وجود مدرسة واحدة فقط في العراق تهتم بهذا النوع من الرقص، وبُعد موقعها، واستقطابها لأبناء وبنات الطبقة الارستقراطية حالوا دون ذلك.

عندما ترفعت إلى المرحلة الثانوية، علمت من صديقات لي منتسبات إلى شبيبة الثورة بوجود فرقة راقصة تؤدي عروضاً على المسرح، فدفعني فضولي لاستكشاف الأمر بنفسي. صُدمت عندما رأيت المدرب في صالة التدريب يضرب أحد الراقصين بكرسي لأنه أدى الحركة بشكل خاطئ. حقيقة الأمر، شعرت بخيبة أمل كبيرة، وانتابني الخوف مما رأيت، وتخليت عن تحقيق رغبتي.

بعد ذلك بعام، عندما كنت في الصف الحادي عشر، التقيت براقص أعرفه أمام مركز الأنشطة في منطقة برزة، وأخبرني أن مدرب مركز الشبيبة قد تغير، وأُدخلت تحسينات إلى الصالة، وبالفعل ذهبت إلى هناك، ورحب بي الأستاذ، وبدأت أول خطواتي في مشوار الرقص.

 

انتسبت بعد ذلك إلى فرقة سمة للمسرح الراقص لمؤسسها علاء كريميد، وكنت من المجموعة التي أدت عرضاً بمناسبة مرور 50 عاماً على انطلاق التلفزيون السوري. عملت مع هذه الفرقة مدة عام، ثم نصحني علاء بالانتساب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية.

* كيف كانت فترة الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، هل من صعوبات غير معروفة إلى العلن؟

عشت في المعهد العالي الأيام بحلوها ومرها، إنه المكان الوحيد الذي نلتقي فيه بفنانين وفنانات من جنسيات متعددة، وكنت في غاية السعادة أنني درست فيه، لكن بالإضافة إلى المجهود الكامل الذي كان علينا أن نبذله كي نثبت وجودنا وتميزنا، وتسخير تركيزنا كي نحصل على التقنيات والمعلومات التي تفيدنا، كانت هنالك ضغوطات نمر بها بسبب تدخلات بعض الأساتذة بحياتنا الشخصية وعلاقاتنا، وكنا نشعر أننا مهددون بالرسوب في حال لم ننل الرضا.

أود أن أشير إلى نقطة مهمة تتعلق بقسم الرقص وهي أنه لا يُقبل فيه راقصون وراقصات لم تتجاوز أعمارهم 20 عاماً، وهذا إجراء ظالم بحق الراغبين والراغبات بالانتساب إليه لكنهم لا يحققون شرط العمر، وفي دفعتي الدراسية عرفت أشخاصاً تقدموا إلى المعهد ورفضوا بسبب ذلك، علماً أن الواسطة وليس المهارة العالية والتقنية كان لها دور في انتساب راقص إلى السنة الثالثة مباشرة وهو بعمر الـ25.

 

لقد شهدت على مدى خمس سنوات دراسية في المعهد الشللية والواسطات والتحيز وعدم أهلية بعض الأشخاص من الكادر التدريسي. أعرف راقصين تأذت أجسامهم من طريقة التدريب، وكنا نشعر بكراهية بعض الأساتذة ومعاملتهم الطبقية والعنصرية، وأذكر أنني تعرضت للتنمر عندما طلبت مساعدة شخصية من أحدهم كي أتدرب على البوانت، وقيل لي: "مو لتعرفي تشدي مشطك لحتى تلبسي بوانت".

عندما تقدمت إلى المعهد، ملأت استمارَتي الرقص والتمثيل، فأخفيت الأولى عن والديّ وأريتهما الثانية، لأنني كنت أجهل ما ستكون عليه ردة فعلهما، إذ لم يسبق أن درس أحد من معارفي وأقاربي الرقص. لم تعلم أمي أنني تخصصت في هذا المجال إلا بعد عام من ذلك، وقد تفاجأتُ من دعمها لي ومساندتها لرغبتي، كما أن والدي لم يعترض على خياري أبداً.

أود أن أعطيك لمحة عن تجربة الراقصين والراقصات داخل المعهد وفي ميدان العمل، فقد كنا خلال فترة الدراسة نتشارك صالة الليونة والأرضية مع قسمي الموسيقا والتمثيل، ولم تكن الصالة مكيفة، والأرضية فيها بعض التجويفات، وقد تعرض بعض منّا لإصابات حتى أن واحداً من زملائي أصيب بالتواء في الكاحل.

عملت أثناء الدراسة مع أورنينا وجلنار ونداء الأرض، وقدمت معهم عروضاً مسرحية وراقصة في مختلف المدن السورية مع مخرجين مثل هشام كفارنة وعروة العربي وزيناتي قدسية، كما عملت نادلة في العديد من المطاعم لأن المردود المادي من الرقص في سوريا معدوم، فبعد البروفات التي قد تدوم لثلاثة أشهر تكون أجرتنا حوالي 40 دولاراً فقط.

إن التعامل معنا غير لبق والأجور مجحفة بحقنا، كنت أشعر أننا مجرد كومبارس متحرك، حتى أننا أدينا عروضاً كثيرة من دون أن يُعرض علينا النص، ولا أعتقد أن الأمر تغير، ففي الوطن العربي يعاملونا كآلات مرنة متحركة لتعبئة الفراغ أو فاصل استراحة بين فصول عرض تمثيلي، وليس أننا نؤدي فناً إبداعياً له شروط وأدوات ونص مكتوب، يؤلمني كثيراً أن زملائي وزميلاتي ما زالوا يتعرضون لهذه المعاملة إلى الآن.

* انتقلتِ من دمشق إلى بيروت وعملتِ هناك لفترة مؤقتة على أمل العودة، لكنك قررت السفر إلى ألمانيا وهجر المنطقة العربية، أخبرينا عن تجربة اللجوء؟

في معظم الأحيان، أحاول ألا أتحدث عن رحلة اللجوء وما بعدها، فهي تخصني وتمسني من أعماقي، وما تزال تؤثر فيني حتى الآن وتشعرني بالحزن. في عام التخرج من المعهد، ذهبت إلى بيروت للعمل، فالحصول على فرصة هناك أيسر وأنفع مادياً، إضافة إلى أننا في سوريا لا نحظى بالتقدير اللازم.

 

كانت خطتي أن أجني مبلغاً من المال يكفيني لسد احتياجاتي اليومية بعد أن أعود إلى دمشق لأكمل التخرج، خاصة أن عائلتي كانت قد عادت إلى بغداد، فقررت أن أحمل مسؤولية نفسي من دون أي مساعدة، لكن في الفترة التي كنت أستعد فيها للعودة، أخبرت والديّ برغبتي بالسفر إلى ألمانيا، كان ذلك أواخر عام 2015.

إن قُدّر لي أن أعبر طريق اللجوء مرة أخرى، يستحيل أن أفعل ذلك، إنها مراهنة خطيرة ولا أحد منا يتوقع ما سيلقاه، لم يخطر ببالي أنني سأسير مع ذلك الكم الكبير من البشر، وأواجه في كل نقطة رجال شرطة مسلحين.

عندما صعدت إلى القارب المطاطي بعد وصولي إلى تركيا، وبسبب التمزقات التي حدثت فيه، أمضينا قرابة يومين في جزيرة عسكرية، واحتُجزنا جميعنا في غرفة، وحوصرنا بالسياج كأننا حيوانات، وفُتشنا بطريقة مهينة، بعد ذلك، نُقلنا بالعبّارة من اليونان إلى أثينا، ثم ركبنا القطارات والباصات إلى أن وصلنا إلى باساو على الحدود الألمانية، هناك وُضع غالبية الناس في مخيمات اللاجئين، بينما تمكنت بعد يومين من الوصول إلى برلين حيث يقيم شقيقي وبعض أصدقائي وصديقاتي.

كان من الصعب عليّ أن أبدأ من الصفر للمرة الثالثة في حياتي. الغربة تذبحك في البداية، وأن تعيشي في مكان لا تعرفين فيه أحداً، ولا تُلقين السلام على وجوه تألفينها، لكن بعد مضي فترة من الوقت، يبدأ التأقلم وتأخذ حياتك مساراً أكثر استقراراً.

* هل انتابك شعور بالانهيار والتوقف كأن ظننتِ أن الرقص ليس ما ينبغي عليكِ فعله طيلة حياتك؟ متى كان ذلك؟

أصبت بالاكتئاب بعد وصولي إلى برلين بأسبوعين، كان عالماً غريباً عني بلُغته وأناسه، حاصرتني الأفكار السلبية، وشعرت أنني بحاجة إلى استراحة من كل شيء، بقيت على هذه الحالة مدة سنتين، ثم جاءني خبر وفاة رفيق دفعتي الراقص حسن رابح في لبنان.

كان حسن شاباً طيب القلب، ويستحق أن يحظى بالفرصة التي أرادها، لم يكن يرغب سوى بأن يعيش ويرقص، وبعد أن لجأت عائلته إلى إيطاليا، بقي هو وحيداً في لبنان من دون أوراق تمكّنه من الوصول إلى أوروبا، فقرر أن ينهي حياته المليئة بساعات الانتظار.

دفعني موت حسن إلى أن أنظر إلى الحياة بامتنان أكبر، فهو لم يكن يمتلك أي مقومات للنجاة، وأنا كنت في بلد كل شيء فيه متاح أمامي، ومع ذلك تملكني اليأس، فاستجمعت إرادتي وعدت إلى تدريبات الرقص وشكّلت مع مجموعة من الراقصين والراقصات فرقة صغيرة، وقدمنا عروضاً في الوطن العربي وأوروبا في الرقص المعاصر والصوفي والجاز. اكتسبت مزيداً من الخبرة بالعمل مع مخرجين من جنسيات عربية وأجنبية، وعُينت مدة 8 أشهر مسؤولة قسم الرقص في أكاديمية يلا آرت، والآن أستكمل دراستي الجامعية.

* ما الفوارق التي وجدتها في برلين ولم تكن متوفرة في دمشق بالنسبة إلى مجال الرقص؟

ثمة فرق كبير بمفهوم الرقص بين البلدين، سأبدأ الإجابة أنه في برلين تقام مئات العروض في اليوم الواحد، وهناك تنوع واختلاف كبيران في الثقافات والأنماط، وفيها أيضاً ما لا يقل عن 250 استوديو لكل أشكال الرقص، وتتفاوت جودة هذه الاستديوهات وما تقدمه من خدمات للمهنة، وهذا ما يجعل الرقص هنا مباح للجميع، وغير محدد بفئة عمرية، بخلاف الرقص في دمشق حيث تحتكره مجموعة من الأشخاص الذين يرون أن بمقدورهم الانخراط فيه.

أذكر أنه بعد استقراري في برلين، ساعدتني امرأة كان عمرها 64 عاماً في الحصول على دروس في رقص الكلاسيك، وهي تواظب على هذه الدروس منذ 26 عاماً لأنها تعتبرها مفيدة لفقرات الظهر والعضلات، والرقص يمنحها سلاماً داخلياً، وقد أشرفتْ على درس تحديد المستوى الخاص بي. في برلين، يمكن لأي شخص لديه الإرادة والشغف أن ينتسب إلى كلية الرقص في أي عمر كان. أتمنى من الراقصين والراقصات الذين من الممكن أن يعودوا إلى سوريا أن يعطوا من الخبرات والتقنيات التي كسبوها في الخارج لكل من يرغب بذلك.

 

* عندما تصممين الرقصات، فأنتِ تعاينين المهنة من زاوية مختلفة فيها دراسة وبحث للوصول إلى شكل نهائي للعرض، ماذا تقولين عن هذه التجربة، وأيهما أمتع إليك الرقص أم التصميم؟

الرقص هو الأمتع عندي بالتأكيد، ولا أجادل في هذا الأمر، إنه يصل بي إلى مكان آخر. عندما تؤدين فكرة أو رسالة بجسدك تصبحين في مستوى ثاني للتواصل مع البشر، وهذا المستوى ليس لغوياً أو صوتياً، إنه طريقة للتواصل بكل نقطة من نقاط الجسد، لكن هذا لا يعني أنني لا أستمتع بالتصميم، ففي حالة كهذه، أرى الأجساد تتحرك أمامي، وأراقبها وهي تطور الفكرة الراقصة، ويسعدني أيضاً الخط النهائي للعمل الذي أنجزه مع فريق الرقص.

* كيف يؤثر العمر على مهنة الرقص؟ هل من عمر محدد تتوقف عنده؟

 أعتقد أن الأمر مرتبط بالمكان الجغرافي، فطالما أنني في أوروبا أرى أن العمر لا علاقة له بمهنة الرقص، ليس كما هو الحال في المنطقة العربية، والعمر لا يحدد أن المرء يمكن أن يستمر بالرقص أم لا.

لدي خطة أن أعمل في الرقص مدة 12 عاماً، وحتى يحين ذلك الوقت، تكون مهاراتي قد تطورت في الرقص والتصميم أكثر، وهذا بالتأكيد سيساعدني في مجالات أخرى. إنني بين يوم وآخر أكتشف في داخلي ميولاً جديدة تضيف إلى مهنتي، منها المونتاج والتصوير، وقد أنجزت مع راقصين أفلام قصيرة راقصة، ربما لم تكن احترافية لكنها أضافت لي الخبرة.

* ما هي خططك الاحترافية في المستقبل القريب؟

في الوقت الحالي، أعمل مع مؤسسة برزخ لإنجاز عمل مسرحي موسيقي، فيه تمثيل ورقص وموسيقا لايف، والعرض سيكون متاحاً في 2 كانون الأول، وأسعى في هذه الفترة أيضاً إلى الحصول على تمويل مالي أكبر لعرض كنتُ قد أديت منه سبع دقائق في العام الماضي، كي تتاح لي فرصة العمل عليه كاملاً خلال فترة زمنية مريحة.

في المرحلة البعيدة، أود أن أعمل على تطوير الفن داخل المجتمع العراقي، إذ ليس لدينا قسماً لتعليم الرقص ولا الموسيقا، لدينا جامعة للفنون يُدرس فيها التمثيل والنقد. صحيح أنه توجد مدرسة واحدة لتدريس الباليه في العراق لكن الأساتذة غير مؤهلين أكاديمياً، وقد أكد لي لقائي بأحد الأساتذة هذا الأمر، كما أنني أعرف من بعض الراقصين والراقصات من بلدي أنهم مظلومون بسبب عدم توفر أماكن التدريب ومنصات العرض والمختصين في هذا المجال.

ليفانت - ميرنا الرشيد

 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!