-
ديوان "النزيل بمعماره في التيه" للشاعر الكوردي لخضر سلفيج
-
رحلة في عوالم المنفى والذات المتشظية ناشرون فلسطينيون

صدر حديثاً عن دار لاماسو للنشر في السويد ديوان "النزيل بمعماره في التيه" للشاعر والمترجم السوري الكوردي، عضو رابطة الكتّاب السوريين، خضر سلفيج. يضم الديوان بين دفتيه ثمانين قصيدة في مائة وخمس وعشرين صفحة. يأخذ الديوان القارئ في رحلة شعرية عميقة إلى عوالم المنفى الداخلي، حيث تتقاطع الذات مع الغياب، واللغة مع الصمت.
تتميز قصائد المجموعة بأجوائها الشذرية المشبعة بالحزن، والتي يسيطر عليها الإحساس بالتيه، والعزلة، والانفصال عن الزمن والمكان. تتجلى الذات المتشظية في الديوان عبر صور شعرية كثيفة ومرمّزة، تتوسل الذاكرة كملاذ، وتستدعي تفاصيل الطفولة والأب والأم والحب المبتور كأصداء لفقد أكبر.
ولا يقتصر المنفى في الديوان على كونه مكاناً جغرافياً، بل يتجاوز ذلك ليصبح حالة وجودية، تحاورها القصائد بحس صوفي ولغة ممعنة في التأمل. فالشاعر في هذه المجموعة لا يسرد تجربة عابرة، بل يعيشها كتابةً، ويحوّل الهشاشة والحنين إلى معمار شعري فريد يراوح بين الحلم والانكسار، ليظهر ككيان له جسد يدفن ويكلّم ويحنّط، ويتحول من حالة إلى كائن حي يلازم الشاعر كرفيق مظلم. وفي الوقت نفسه، يمثل المنفى مساحة للصمت والتأمل والخسارات المتراكمة، وتبرز جغرافيا الذاكرة من خلال رموز مثل الشام والمقاهي القديمة وسوق الزهور، التي تظهر كمرايا مكسورة لحيوات ماضية.
يتنقل الشاعر في هذا الديوان بين أطياف الذات المنفية، وأمكنة شبه متلاشية، وشخصيات رمزية مثل الغريب والعرّاف والنزيل، جميعها تسبح في فضاء التيه والاغتراب. وينسج عوالم قصائده من تفاصيل حسية دقيقة كالقهوة والركوة وناي الموتى وعطر الأب وساعة الجد، ليصنع منها ذاكرة مشققة تطاردها أشباح الفقد وتوق الروح للحضور، فتتجلى تبعا لذلك ثيمة أخرى، ألا وهي العزلة من خلال هذه الشخصيات، المفصولة عن الجماعة والواقفة على هامش العالم، حيث العزلة ليست اختياراً، بل نتيجة الانسحاب من زمن لم يعد يشبه الذات.
ويوظف الشاعر في الديوان لغة صوفية ورموزًا مثل "ترجمان الأشواق" والبخور والعراف الأعمى وصرخة في أغنية إغريقية، ليفتح النص على بعد ميتافيزيقي وصوفي، حيث الذات تبحث عن تطهير أو فناء رمزي في "التعبد" الشعري المستمر.
أما الذات الشاعرة في الديوان، فهي ذات متشظية موزعة بين مجموعة من الثنائيات الضدية: الذاكرة والحاضر، الحب والفقد، الوطن والمنفى، الذات والآخر أو العالم، وتشتغل كل قصيدة كمقطع نفسي يكشف جزءاً جديداً من هذه الذات التي لا تكتمل ولا تصالح بينها وبين العالم، بل تعيش في التيه كمكان رمزي لوجودها.
ويتميز أسلوب الشاعر في الديوان باللغة السلسة ذات الإيقاع الشجيّ، حيث تسيطر عليها الوجدانيات المغمسة بالحزن، والمكثفة القائمة على الإيحاء، والميل إلى التدوير داخل الجملة الشعرية الذي يجعل القراءة تجربة تأملية، والإكثار من استعمال الرموز المفتوحة التي تحمل شحنات عاطفية وثقافية عميقة.
يمثل ديوان "النزيل بمعماره في التيه" مجموعة شعرية لا تقرأ بتأويل واحدٍ، بل تعاد قراءتها في ضوء تغير الذات نفسها، حيث تفتح كل قصيدة باباً نحو هشاشة الإنسان أمام الغياب والزمن والحنين، وبذلك يمكن أن يكون هذا الديوان مثالا جيدا على شعر الاغتراب، ونموذجاً حياً، ليس لاغتراب الشاعر عن بلده سوريا فقط، أو ليثمل الإنسان السوري المنفي وحسب، بل إنه لطبيعة الطرح المطلق، فإن هذا الإحساس العام بالاغتراب والتشظي يحسّها كل إنسان واقع في مثل هذه الظروف، ليتحول الديوان من الخصوصية الفردية ليصبح من الشعر الإنساني العامّ.
ومن بين قصائد الديوان التي يمكن أن تمثّل بعض ثيماته الأساسية قصيدة "المَنْفِيُّونَ إِلى كَاهِلِ التِّيهِ":
المَنْفِيُّونَ إِلى كَاهِلِ التِّيهِ
أَرَقٌ يَوْمِيٌّ،
صَوْتٌ أَعْزِفُ عَنْهُ
وَلَكِنَّهُ يَدْخُلُنِي،
يَتَسَرَّبُ فِيَّ
ويَحُثُّنِي عَلى الحَدِيثِ إِلَيْهِمْ
قَبْلَ أَنْ يَتَسَاقَطَ الصَّدَأُ
مِنْ حَنْجَرَتِي المُعَطَّلَةِ عَنِ العِتَابِ.
***
المَنْفِيُّونَ إِلى كَاهِلِ التِّيهِ
بِلَعْنَةِ الصَّبْرِ،
كَي تَقُولَ الرُّمُوزُ أَغَانِيهِمْ فِي مِهْنَةِ المَغْفِرَةِ.
أَدْمَنُوا خَدْشِي بِالمَجَازِ الطَّيِّبِ
وغَادَرُونِي.
أَخَذُوا قِطْعَةً مِنْ جَسَدِي مَعَهُمْ
لِأَتَذَكَّرَهُمْ بِهَا.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!