الوضع المظلم
الإثنين ٠٤ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الخيار الصعب في اجتراح التغيير الاجتماعي
مصعب قاسم عزاوي

الخيارات الإرادية المتاحة لأي فرد مشروطة ونابعة من الظروف الموضوعية التي يعايشها في مجتمعه، والمضبوطة أساساً لمصلحة من يهيمن على مصادر السلطة والثروة والإعلام في المجتمع. وهو ما يعني عملياً بأن الخيارات محدودة بشروط زمنية وظروف مجتمعية لا يمكن إحداث التغيير من خارجها.

و يمكن الإشارة أيضاً إلى أن أهم أدوات و روافع التغيير في أي مجتمع هو العمل الجمعي، الذي قد يكون أحد أهم الأمثلة عليه، العمل النقابي والنشاط في مجتمعات المجتمع المدني، وكلاهما أساساً عملان يتركزان على توحيد جهود مجموعة من الأفراد يتفقون فيما بينهم على ضرورة تحقيقها، ودون حمولة إيديولوجية كبيرة في غالب الأحيان، مما يسهل اتفاق الأفراد على تلك الأهداف، بالتوازي مع عنصر فائق الأهمية  في ذاك التوافق يتعلق بتراجع هدف الوصول إلى تحقيق أي هيمنة أو التمكن من سلطة معينة في المجتمع غالباً إلى مرتبة متأخرة من قائمة تلك الأهداف الجمعية الملحة، مما يخفف من إشكاليات وتعرجات السعي الهادف للوصول إلى السلطة، وما قد ينطوي عليه من تلافيف مخاتلة الكثير منها غير أخلاقي وتنافسي قد يكون وحشياً بما تفرضه طبيعة التناحر للوصول إلى السلطة والهيمنة الاجتماعية، وما يفرزه ذلك من عناصر تشوش الوعي وتخلق وعياً زائفاً بضرورة التمسك بتلك السلطة وعدم التضحية بمكاسبها.

ولذلك فإن الواقع المعاش في جل أرجاء الأرضين لا يفسح المجال الحر للعمل النقابي أو المدني بشكل منعتق يحتمل أن يفضي إلى نتائج مؤثرة، وذلك بفعل مقاومة نظم الهيمنة بشكل عنيف لكل إمكانيات انتظام البشر في أي عمل جمعي يحتمل أن يؤدي في المآل الأخير لتشكيل «كتلة تاريخية» تمثل اتحاد مجموعة من البشر الهادفين والساعين بكل قواهم لتحقيق أهداف جمعية تتطابق مع مصالحهم الآنية وعلى المدى البعيد ويرون في تحققها ضرورة لتحسين مستوى حيواتهم المعاشة يومياً. والمثال النموذجي على تلك المقاومة التي تبذلها الفئات المهيمنة يفصح عن نفسه بأشكال مختلفة حسب الظرف الموضوعي لكل مجتمع، فهو يتمثل في المجتمعات الاستبدادية من خلال تهشيم كل إمكانيات العمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني الحقة بقوة الهراوات الأمنية والقمع والحديد والنار، وفي مجتمعات الديموقراطيات الشكلية يتم بأشكال مواربة ومخاتلة، من قبيل القوانين الجائرة في بريطانيا لتنظيم حق العمال في الإضراب، وتخويل السلطة القضائية في اعتبار أي إضراب يخالف منطوق القانون «عملاً مخالفاً للقانون» يستحق القائمون به عقوبات رادعة من قبيل الفصل التعسفي من العمل، وفض الإضراب بالقوة الشرطية أو العسكرية إن اقتضى الأمر ذلك، في تعام صارخ عن حقيقة أن الإضراب هو السلاح الوحيد الذي يمتلكه العمال المأجورون المرغمون على تأجير أنفسهم وقوة عملهم لأوقات محددة للبقاء على قيد الحياة.

وذلك الواقع البائس لا يترك للفرد كثيراً من الخيارات والمسارب للسعي فيها، إذ معظمها يقع في حيز «الفردانية» التي تمثل منظاراً يُعرِّف ويقيس كل فعل يمكن للفرد القيام به بمدى تحقيقه لكسب شخصي مادي، وغالباً على المدى القصير، وبشكل ملموس محسوس، وهو ما قد يتطفر ويأخذ صيغة أكثر تطرفاً في نماذج تنكسية من قبيل «الانتهازية» و«الوصولية» و«الذرائعية» وغيرها من تنويعات المفاهيم التي ترى في المجتمع غابة وحشية البقاء فيها محصور للأكثر فتكاً وبأساً، والذي دينه وديدنه مبدأ «اللهم أسألك نفسي».

وعلى الرغم من ذلك، فإن البنية التكوينية الفطرية لبني البشر التي تكونت وتشذبت تاريخياً بقوى الاصطفاء الطبيعي عبر رحلتهم التطورية الطويلة التي امتدت على ما يقارب السبعة ملايين من السنين كحيوانات «اجتماعية بامتياز» تتنافر بشكل عضوي غريزي مع كل تلاوين الفردانية بشكل راسخ وطيد في عمق الدارات البنيوية في أدمغة بني البشر، وآليات عملها الفيزيولوجية، و ما تفصح عن نفسها به من سلوكات فطرية تحاول كل أنظمة الهيمنة إيهام المنخرطين بها بخطلها و انحرافها أو سذاجتها و طفوليتها حينما تشرأب هنا أو هناك بنماذج مبهرة من الأفراد أو المجموعات التي تضع المصلحة الجمعية، والتي قد تأتي بعد حين طويل من النضال، أو قد لا تأتي على الإطلاق، فوق مصالحها الفردية الآتية الضيقة والحسية في كثير من الأحيان.

وفي هذا السياق تبرز أهمية الخيار الأخلاقي الذي لا بد لكل فرد من اتخاذه في كثير من مراحل وتحولات سيرورة حياته، وهو خيار قد يكون مكلفاً على مختلف الأصعدة، في حال لم يكن نابعاً من نسق الفردانية والأنانية السالف الذكر، إذ إن أي خيارات أخرى من قبيل العمل الجمعي لتغيير الشروط الاجتماعية السائدة لمصلحة عموم أفراد المجتمع، وليس الفئات المهيمنة عليه وعلى مصادر الثروة والسلطة فيه لا بد أن يقابله رد فعل عنيف من تلك الفئات للمحافظة على مكاسبها، وهو ما قد يكتسي بطابع صدامي مهول، كما حدث في حالة الربيع العربي الموؤود.

وهو ما يقتضي من كل عاقل منصف النظر إلى أولئك الأفراد الذين يتخذون من خيار السير في الطريق الشائك وعكس التيار السائد بأنهم «البشر الأحقاق» الذين لم يستسلموا لشروط الواقع، ويسروا في أسهل الطرق الانتهازية والفردانية، واستبدلوا ذلك بالخيار الأكثر أخلاقية، واتساقاً مع الميول الفطرية لبني البشر، والمتمثل في السعي الجمعي لتغيير وتحسين شروط الحياة الاجتماعية عبر الاجتهاد والدأب والنضال والحشد والتنظيم لتحقيق ذلك التقدم الاجتماعي حتى لو بعد حين قد لا يستطيع إدراكه أولئك المجتهدون خلال وجودهم القصير والعابر في صيرورة حياة البشر والمجتمعات البشرية التي ينتسبون إليها.

وتلك حقيقة لا بد أن تكون حاضرة في ذهن ووجدان أي عاقل عند اتخاذ أي خيار أخلاقي إرادي في حياته. فالاستسهال و الانسحاب والتقوقع دائماً أقل أكلافاً وأقرب في حصد ثماره، بينما الاجتهاد والعمل الجمعي والسباحة عكس التيار خيارات مضنية ومكلفة على الصعد جميعها، ولكنها خيارات لا بد من السعي في مساربها من كل قادر عليها، و التخلي عن واجب محاولة القيام بها جزئياً أو كلياً يعني التخلي عن أهم السمات الواسمة لبني البشر كحيوانات اجتماعية، و يفقدهم أهم صفاتهم الإنسانية التي ميزتهم ككائنات حية، ويخنق فرص الحفاظ على استمرار عيوشية المجتمعات التي ينتسبون إليها، التي لولا تلك الصفة الاجتماعية الفريدة التي تضع مصلحة الجمع قبل مصلحة الفرد الضيقة لما تمكن الجنس البشري  من الاستمرار خلال رحلة تطور بني البشر الطويلة.

ليفانت - مصعب قاسم عزاوي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!