الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الثورة تجب ما قبلها وما بعدها
غسان المفلح

الفعل جبّ.. لهذا الفعل معانٍ كثيرة، لكن المعنى الأكثر تداولاً هو ما ورد في الحديث الشريف "إِنَّ الإِسلام يَجُبُّ ما قبله": أَي يقطع ويمحو ما كان قبله من الكفر والذنوب. لكن هذا الفعل يمكن أن يأخذ معاني أخرى، كالاستئصال والتلقيح والغلبة. سأحاول في هذه العجالة زحزحة المفهوم قليلاً باتجاه معنى أكثر رحابة، انطلاقاً من فعل الثورة عموماً، وفعل الثورة السورية خصوصاً. الإسلام في حينه كان ثورة في مجتمعه ذاك، هدمت ما قبلها، وولّدت ما بعدها.  الثورة 


الثورة بوصفها بؤرة مولدة للحدث لما بعدها. وهذه الما بعد ليست شرطاً لتحقق العدالة، لكنها مشروطة للثورة- الحدث. في سياق المعنى المستخدم، هي تشكل حالة صفح عن أي سوري كان مسانداً للأسد، وأخذ موقفاً مع الثورة منذ انطلاقها. بالتالي تغفر له أسديته فيما قبل الثورة.


هنالك سياق تاريخي يحكم المفهوم، الثورة هي لحظة نادرة الحدوث من جهة، وهي لحظة انفجار من جهة أخرى، تدمر ما قبلها ويصير ما بعدها غير قادر على تجاوز نتائجها بالمعنى الرمزي للعبارة ولا بالمعنى السياسي، التدمير هنا هو إلغاء فاعلية النسق السياسي والمعياري الحاكم للمجتمع. المقصود هنا السلطة الأسدية بكل علائقها، التي أفضت خلال خمسة عقود ونيف من حكمها بتحويل البلد إلى دولة فاشلة وسلطة غاشمة وإبادية. نحن هنا لا نتحدّث عن وضع الأمر في سياق فرداني. بل وضعه في سياق جمعي. مجتمع عندما ينجز تسويته بعد الثورة، ينجزها بناء على معطيات تتجاوز الفرداني. تتكثّف في إنهاء الحالة التي سببت كل هذا القتل وانتظار العدالة. الانفتاح على العدالة والقانون، عندها من حق الفرد أن يتقدم ليحقق عدالته.


إنّها لحظة مؤسسة لما بعدها ولا يمكن تجاوزها وتجاوز نتائجها. بؤرة لماضيها ومستقبلها، تمحور حولها السابق وسيتمحور حولها اللاحق. أحاول أن أخرج الموضوع من سياقاته الفردية في الحكم على الأفراد الدارجة في خطابنا عنها. الثورة 


من منظار العدالة الانتقالية، الثورة لا تجب قبلها ولا تجب بعدها. القانون قانون والحقوق حقوق. كلها تنتظر تحقيق العدالة. كل الضحايا تنتظر لحظة فارقة في تاريخ سوريا، وهي تحقيق العدالة. الاقتصاص من كل مجرم. من كل فاسد ومن كل قاتل لأسباب سياسية وغير سياسية. هذا حق لا يخضع للمساومات لو كنا بحالة طبيعية. نحن لسنا طبيعيين ولسنا في حالة طبيعة، كباقي دول العالم. هذا أمر علينا الإقرار به. بعيداً عن قصة المظلوميات، نحن تعرضنا لإبادة مادية ورمزية كسوريين. لم يعد مهماً في هذا السياق من المتسبب، مجتمع دولي، معارضة فاسدة، إبادة الأسدية وحلفائها. لكننا نعيش الإبادة كما أسلفت، مادياً ورمزياً.


ملايين من النازحين واللاجئين، مليون ضحية، مئات ألوف المغيبين في سجون الأسد والمفقودين، ومن قتلوا تحت التعذيب. من جهة أخرى انهيار الاقتصاد النسبي في مناطق سيطرة الأسد، طوابير أهلنا هناك على الخبز والغاز، الكهرباء باتت مشتهى، والقمع أسوأ من السابق، وانتشار المخدرات والعصابات والبلطجية المحركة مخابراتياً أو المدعومة أمنياً. مقابل هذه الإبادة المادية الجارية حتى لحظة كتابة هذه المادة، حيث قصف المجرم الروسي مستشفى الأتارب في ريف حلب. الإبادة الرمزية هي في تحميل الضحية مسؤولية قتلها، بحجج شتّى، ثقافية ودينية وسياسية.


الثورة لم تحاسب من انشقّ وليست بوارد ذلك عندما انطلقت في شوارع سوريا. الحساب والعقاب كما يقال في ملف السياسة والحقوقيين. ليس أبداً في ملف هذه الثورة. الثورة تريد سوريين لحظة انفجارها. على المستوى الفردي الثورة غفرت، الدليل أنّ منشقين كثراً نزلوا إلى الشارع، قتلهم الأسد في التظاهرات، أو غيبهم في السجون. على هذا الصعيد الثورة جبت ما قبلها. لكن أن تجب ما بعدها هنا الإشكالية. الثورة أنجزت ما هو مطلوب منها. دمرت النسق السياسي القائم قبلها. أنتجت وضعية جديدة، تحتاج لمستوى سياسي جديد. لم يعد هذا مهمة الثورة، إنما مهمة المعارضة ومهمة الدول التي قتلت السوريين، ومهمة الدول التي تدّعي صداقة الشعب السوري. أن تنهي هذا الفصل العار من تاريخ البشرية. 


لهذا الثورة تجب ما بعدها. لأنها ليست إدارة سياسية أو حقوقية. ليست مصالح ودولاً. هي أنتجت وضعاً جديداً سيئاً أم جيداً، هذا ليس بأي حال من مهمة الثورة. كانت لحظة قطيعة مع الأسدية ونسقها وكل ما يتعلق بها، وكان موجوداً قبل لحظة الثورة. الآن نحن أمام وضع جديد. رغم هزيمة الثورة من منظور أنها لم ترَ حتى اللحظة شعاراتها في الحرية والكرامة تتحقق على كامل سوريا. هذا الوضع خلقته الثورة حتى في هزيمتها. أكبر جيشين في العالم وأكبر جيشين في الإقليم يحتلون سوريا. لم يعد للأسدية سيادة حتى فيما يعرف بمناطق سيطرته، تشاركه روسيا وإيران. النسق الأسدي انتهى إلى غير رجعة. الآن "الثورة المهزومة" غايتها لملمة البلد بدون الأسد، كي تسترد عنوانها "الشعب السوري واحد". هذه أيضاً موكلة لمستوى سياسي يبدو أنّه غير قائم بالأفق الدولي أو الإقليمي أو المحلي. لملمة البلد بدون الأسد شعار سياسي. إذا كان هذا الشعار من أجل تحقيقه يتطلب تخلياً عن مبدأ العدالة الانتقالية. الضحايا يتحملون عندما يرون الأسد ساقطاً، لكن التخلي عن خطوتي الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية قبل ذلك، كما فعلت المعارضة الرسمية في سلال ديمستورا، وتبنت مشروع ديمستورا في اللجنة الدستورية لتمييع أهداف الثورة، إنها سقطة ساقطة لمعارضة فاشلة. حتى لو كان ميزان القوى لا يسمح دولياً يجب ألا نقبل. الآن يخرج علينا رئيس اللجنة الدستورية للمعارضة ويتبجح بمانشيتات خلبية، لا تقنع طفلاً في مخيماتنا. وفي كل تصريح كأنّه يقدم فتحاً في الدبلوماسية والفنتازيا. 


لدي معادلة مشروطة بسقوط الأسد يجب أن نرى اللوحة السورية بعد الثورة. هذه المعادلة تقول إذا سقط الأسد يجب لملمة البلد وترك ملف العدالة الانتقالية. الزمن كفيل بحلّه. من هذا المنطلق قلت الثورة تجب ما قبلها وما بعدها. هذا اجتهاد ربما قلته وكتبته كي نجيب على سؤال كيف يمكن لملمة البلد بعد سقوط الأسد؟ لأنّه لا يمكن لملمة البلد في ظل الأسد، وهو سبب خرابها وتدميرها وبيعها بالمزاد العلني.


الثورة هويتها كانت شعاراتها الأولى كما ذكرت. ما لحق بها من هويات أخرى هذا فعل نخب سياسية. فعل دول ومراكز تمويل. فعل جماعات هوياتية، سواء بحجة أنّها مع الثورة أو أنها ضدها. الثورة لم تنطلق لكي تقسم البلد أو تهتك نسيجها الاجتماعي. بات لدينا إشكالية طائفية وإسلامية وقومية. وإن كانت قديمة ومغيبة بفعل القمع، لكن هذه المرة ظهرت إلى السطح محمولة على الثورة أو حملت للثورة. الثورة لا هوية لها سوى شعاراتها الأولى، وما تبقى هو هويات حملتها للثورة نخب مفلسة. هل رأيتم في قيادة المجلس الوطني والمجلس الكردي وقسد والإخوان المسلمين وهيئة التنسيق والائتلاف وهيئة التفاوض والمنصات كلها، شخص واحد كان يقود التظاهرات الأولى أو كان مشاركاً فيها إلا من رحم ربي، وكان ديكوراً للأسف. قيادة الإخوان ومعظم كوادرها خارج البلد، أعضاء المكتب التنفيذي للمجلس الوطني خارج البلد، أعضاء المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق خارج البلد أيضاً، سياسياً وفكرياً، المنصات لاحقاً.


سيرة مشعل التمو وعبد الباسط الساورت وفدوى سليمان توضح لك. سيرة اتحاد التنسيقيات ولجان التنسيق المحلية. هل تحكم الثورة على كل هؤلاء بالإعدام؟ الثورة التي أعرفها وعايشتها تريد لملمة البلد دون الأسد، بعد هذا الدمار والتهتك على كافة المستويات. 


غسان المفلح


ليفانت - غسان المفلح ليفانت 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!