-
الاستعصاء الأكبر في القضية السورية
واجهت الثورة السورية عديداً من التحديات لعل أضعفها كان نظام الأسد، فتمكنت الثورة من تجاوزه بوقت قياسي، فعلى الرغم من شدة قمع النظام للمظاهرات السلمية فقد شقت الثورة طريقها دون تخامد.
ثم واجهت الثورة التحدي الثاني متمثلاً بحزب الله وإيران وبقية التوابع، فاستخدم هؤلاء كل أنواع القتل والتنكيل بحق السوريين، لكنهم لم ينجحوا في ثني إرادة الشعب السوري عن أهدافه في الحرية والكرامة.
وبعد تجاوز الثورة السورية للتهديد الإيراني جاء دور التهديد الروسي، وكان هو الأصعب نظراً لامتلاك روسيا قوة حربية مدمرة، ونظراً لهامش السياسة الذي يتيح للروس التحرك بأريحية لا تملكها إيران ولا نظام الأسد.
تلك التهديدات الخارجية الثلاثة تجاوزتها الثورة السورية بصعوبة بالغة، حيث كانت تحدث استعصاءات كثيرة في مسيرتها، حتى أمكن القول: إن الثورة بخير ما دامت قوية من الداخل محافظة على تماسكها ونظافتها، لكن التحدي الأكبر الذي واجهته الثورة هو ذلك الخطر الذي بدأ يتعاظم تدريجياً في البيت الداخلي الثوري، وينمو كالسرطان في جسد الثورة، ألا وهو هيمنة «التيار الإسلاموي» على قرار الثورة، عندئذ تعطلت الانتصارات وتوقفت الاختراقات وتلاشت الانشقاقات، وازدادت الكوارث والنكبات على الشعب السوري.
هنا يمكن القول بأن الثورة السورية دخلت في حالة استعصاء مقيت لأنّ التحدي الجديد مقيم في البيت الداخلي للثورة السورية ومسيطر على كل مفاصلها.
ومع ذلك فإن هذا التحدي الكبير دخل في صراع مع القوى الوطنية والشعبية في الثورة، حين بدأ الناس يكشفون زيف الإسلاميين كونهم يتلحَّفون الدين لستر عوراتهم المتمثلة بالفساد، وهوس السيطرة، والعمالة للخارج المعادي لتطلعات السوريين الأحرار.
وتبلورت رؤية جديدة لقوى الثورة السورية مفادها: «الثورة السورية لا تستطيع التقدم للأمام لتنجز أهدافها ما دام الإسلامويون قابضين على قرارها»، فهم يمثلون «كتلة العطالة» الحقيقية التي تمنع أي انفراجة في المشهد السوري، فبينما كان الوطن رهينة بيد النظام وحلفائه، أصبحت الثورة السورية رهينة بيد الإسلاميين وحلفائهم. فالأول وهو النظام قد سخر الوطن واعتصره اعتصاراً لخدمة سلطته، والثاني وهو «تيار الإسلام السياسي» استغل الثورة السورية ليزيد في ثرائه.
وعندما اشتد الصراع بين الإسلامويين والقوى الوطنية الشعبية، التجأ هؤلاء إلى «الحكومة التركية» برئاسة «حزب العدالة والتنمية»، واستمدوا الدعم السياسي من تركيا، والدعم المالي من «قطر» وتعاظم خطرهم، فحدث «الاستعصاء الأكبر».
الاستعصاء الأكبر حدث حين استحوذت تركيا على كامل القرار الثوري مستفيدة من قابلية «الإسلامويين» لتنفيذ كل ما هو مصلحة لتركيا ومضرة للشعب السوري. فأدخلت تركيا ثورة السوريين في مسار «أستانا» ليسترد النظام الطائفي ما حرره الثوار من الجغرافيا السورية. حينها كان مطلوباً من الشعب السوري أن يرى نفسه ذاهباً إلى مصيره السيء دون اعتراض لأن «الإسلامويين» سيسكتونه.
الاستعصاء الأكبر حدث عندما أطلقت تركيا يد «هيئة تحرير الشام» للقضاء على فصائل الثورة السورية، وإلغاء كل مظاهر الثورة فيما سمي بالمحرر، وهنا صبغت الثورة السورية بسواد «تنظيم القاعدة» الذي لطَّخ سمعة الشعب السوري الثائر، حتى تم وسمه بتهمة الإرهاب مع أن إرهاب القاعدة استهدف الشعب السوري قبل أن يصيب أي جهة أخرى، بينما سلمت منه قوى التشبيح والجريمة.
الاستعصاء الأكبر حدث حينما بدأت تركيا بشحن السوريين ليقاتلوا خارج سوريا خدمة للمصالح التركية مقابل المال، ليتم وَسْمُ الثورة السورية بالارتزاق، مما أوصل رسالة للعالم كله بأن السوريين جاهزون من هذه اللحظة للتدخل في شؤون الدول الأخرى والانخراط في صراعات خارج حدود الوطن.
بالمقابل فقد تمثل «الاستعصاء الأكبر» في «ختم البنادق الثورية بالشمع الأحمر» فلا تقاتل النظام ولا تتعرض لحلفائه، كما تمثل في «فرض الإقامة الجبرية على العقول المفكرة» حتى صار ممنوعاً التفكير خارج النص المقرر والمكتوب.
عندئذ صار بمقدور المراقب أن يلحظ ظاهرة جديدة تزداد وضوحاً مع الزمن، ألا وهي «العقم السياسي» فلم تعد الثورة تنتج حلولاً، لأن الحلول الناجعة المفترضة سوف تصطدم بـ «الممنوعات التركية»، ومسموح لأولي الفكر وأصحاب المعرفة أن يطرحوا ما يشاؤون من مقترحات، باستثناء تلك التي تنطوي على المنفعة الحقيقية للسوريين الثائرين.
وهذا العقم أنتج ظاهرة جديدة أخرى وهي الصمت والسكون، حين صار الكلام المفيد محرَّماً وأصبح التحرك المنتج مجرَّماً. مما جعل معظم الطروحات الثورية باهتة خيالية، فصار الكثير من المتحدِّثين -إن تحدثوا- يتناولون كل شيء إلا مراكز المفاهيم.
خلاصة القول: إن الاستعصاء الأكبر حدث عندما سلَّم الإخوان المسلمون قرار الشعب السوري للأتراك، والأتراك مهتمون فقط بإقامة «كانتون إخواني» يتبع لتركيا بالمطلق، ليتبادل الإخوان والأتراك المصالح السيئة فيما بينهم، ويحشر السوريون في مساحة ضيقة تحت رحمة الإغاثات الدولية المُقَرصنة، ويستذكروا ذكريات الديار التي أجبروا على تركها، أو يقرضوا الأشعار كما فعل الشاعر الراحل «نادر شاليش» الذي اشتهر بقصيدة مطلعها:
أرسلت روحي إلى داري تطوف بها لمَّا خطانا إليها ما لها سُبُلُ
في حالة الاستعصاء الأكبر لا حلول ترتجى إلا ما كان «فنتازياً» غريباً يشبه الجنون أحياناً، مع أننا في زمن صرنا نتمنى أن ينشط فيه المجانين لعلهم يكونون أكثر جرأة فيكسرون حالة الاستعصاء، لكن يبدو أن هؤلاء خائفون أيضاً من مساءلة ومحاسبة تحرمهم لذة الجنون.
ؤ
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!