-
التصعيد الإسرائيلي يضع سوريا بين الحسابات الإقليمية والمخاوف الأمنية

مع خروج سوريا من مرحلة الصراع بين المعارضة والنظام الدكتاتوري الذي ولى، تواجه قيادتها السياسية الجديدة تحديًا جوهريًا في إعادة تعريف سياستها الخارجية، بما يضمن تحقيق التوازن بين المصالح الإقليمية والدولية، ويجنبها الوقوع في دائرة الغموض الجيوسياسي. فالإعلان الدستوري الذي يحدد المرحلة الانتقالية بخمس سنوات يفرض على الحكومة الجديدة تبني رؤية واضحة لعلاقاتها الخارجية، بعيدًا عن التردد، لضمان استقرار الدولة ومنع استمرار النظرة الضبابية إليها من قبل القوى الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل وبعض الدول العربية.
لكن هذا المسار محفوف بالعقبات، حيث تتداخل عوامل إقليمية عديدة تجعل من مسألة بناء سوريا الجديدة أكثر تعقيدًا. ومن بين أبرز هذه التحديات، مسألة المقاتلين الأجانب، الذين يشكل وجودهم تهديدًا أمنيًا يمتد إلى دول الجوار، وخاصة إسرائيل، فضلًا عن موقف الدولة من جماعة الإخوان المسلمين، التي لا تزال محل انقسام إقليمي بين دول معادية لها وأخرى متحفظة على دورها في السياسة. كما أن التقارب السوري-التركي يثير مخاوف إضافية لبعض الدول العربية وإسرائيل أيضًا، خصوصًا مع احتمالات عودة حماس والجهاد الإسلامي إلى سوريا، وما قد يصاحب ذلك من إنشاء قواعد عسكرية تركية داخل البلاد، وهو أمر ترى فيه تل أبيب تهديدًا مباشرًا لمصالحها الأمنية.
في هذا السياق، يصبح اعتماد السياسة الوقائية ضرورة استراتيجية، إذ تركز على إدارة المخاوف الإقليمية وتوظيف التوازنات الدولية لصالح بناء دولة مستقلة ذات سيادة، قادرة على المناورة بمرونة، دون الانزلاق في استقطابات قد تعطل مسيرتها نحو الاستقرار. لكن هذه المقاربة تواجه اختبارًا حقيقيًا مع التصعيد الإسرائيلي المستمر داخل الأراضي السورية، والذي يبدو أنه بات مدفوعًا ليس فقط بموقف تل أبيب التقليدي تجاه الوجود الإيراني، بل أيضًا بحسابات جديدة مرتبطة بالدور التركي وطبيعة الحكومة السورية الجديدة.
فقد شهدت الساحة السورية في الفترة الأخيرة تصعيدًا إسرائيليًا ملحوظًا، بالتزامن مع تولي حكومة جديدة في دمشق. وبينما بدا أن التصعيد مرتبط بالسياسة الإسرائيلية التقليدية تجاه النفوذ الإيراني في سوريا، إلا أن هناك عوامل جديدة دخلت على خط المواجهة، أبرزها تصاعد الدور التركي في سوريا، إضافة إلى الطبيعة الأيديولوجية للحكومة السورية الجديدة، التي تتشكل من شخصيات ذات خلفيات جهادية سابقة.
1. الدبلوماسية التركية المربكة وأثرها على التصعيد
خلال الأشهر الأخيرة، سعت تركيا إلى توسيع نفوذها في سوريا عبر عدة مسارات، منها الحديث عن ترسيم حدود بحرية أثار قلق إسرائيل واليونان وقبرص ومصر، بالإضافة إلى تسريبات عن اتفاقيات أمنية تتعلق بإنشاء قواعد عسكرية تركية داخل سوريا. كما برزت إشارات تركية ذات طابع ديني، مثل الاهتمام المتزايد بالمسجد الأموي في دمشق، في محاولة لترسيخ نفوذ مشابه لما فعلته إيران مع مقام السيدة زينب.
هذه التحركات لم تمر مرور الكرام، لا على الحكومة السورية الجديدة، التي وجدت نفسها مضطرة للتعامل بحذر مع أنقرة، ولا على إسرائيل، التي ترى في النفوذ التركي تهديدًا محتملاً لمصالحها. فعلى عكس إيران، التي تعاني من عزلة دولية، تمتلك تركيا علاقات دبلوماسية واسعة مع الغرب، ما يجعل نفوذها أكثر صعوبة في الاحتواء. لذا، يبدو أن إسرائيل تحاول عبر التصعيد العسكري إرسال رسائل تحذيرية، ليس فقط للحكومة السورية، بل أيضًا لأنقرة، مفادها أن محاولات استبدال النفوذ الإيراني بنفوذ تركي لن تكون مقبولة.
2. الحكومة السورية الجديدة وطبيعتها الجهادية
السبب الآخر الذي قد يفسر التصعيد الإسرائيلي هو طبيعة الحكومة السورية الجديدة، التي تضم شخصيات ذات خلفيات جهادية سابقة، بعضها كان مرتبطًا بتنظيمات مثل القاعدة. هذه الخلفيات تثير قلق دول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية التي نفذت عمليتين في إدلب واغتالت قياديين مقربين من السلطة، وقلق تل أبيب، التي لطالما استغلت حالة الفوضى في سوريا للحفاظ على توازن استراتيجي في المنطقة. فإسرائيل ترى في هذه الحكومة تهديدًا مستقبليًا، خاصة إذا تحولت إلى بيئة حاضنة لتنظيمات معادية لها.
ورغم محاولة الحكومة السورية تقديم نفسها ككيان سياسي يسعى إلى حكم البلاد بواقعية، فإن تاريخ بعض رموزها لا يزال يثير مخاوف إقليمية ودولية، ويعطي إسرائيل مبررًا لتكثيف عملياتها العسكرية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب ومنع ظهور تهديد جديد على حدودها الشمالية.
تركيا: من داعم إلى عبء؟
من المفارقات أن تركيا، التي كانت في فترة ما أبرز داعم للحراك العسكري في سوريا، باتت اليوم تمثل عبئًا على الحكومة الجديدة في دمشق. فقد تغيرت استراتيجيتها، ولم تعد تركز فقط على دعم الفصائل المسلحة، بل أصبحت تسعى لتحقيق مكاسب سياسية عسكرية مباشرة، حتى لو كان ذلك على حساب حلفائها السابقين.
والقضية الكردية تلعب دورًا في هذا التحول. فمصير الأكراد في سوريا مرتبط بالتفاهمات الداخلية في تركيا، خاصة بين الرئيس رجب طيب أردوغان وحلفائه في حزب الحركة القومية وحزب العمال الكردستاني، المؤثر فعليًا في حزب الاتحاد الديمقراطي ذي اليد الطولى في “قسد”. وإذا انهارت هذه التفاهمات، فمن المحتمل أن تتجدد المواجهات بين تركيا والمجموعات الكردية المسلحة، مما سيؤثر مباشرة على الوضع في سوريا، ويضع الحكومة السورية في مأزق معقد.
فمن جهة، لا تستطيع دمشق الاستغناء عن الدور التركي تمامًا، نظرًا لنفوذ أنقرة في الشمال السوري. لكن في الوقت ذاته، تجد نفسها مضطرة للتعامل مع تداعيات التحركات التركية، التي تضعها في مواجهة غير مباشرة مع إسرائيل ودول أخرى في المنطقة.
الدور الأمريكي: حضور محدود بتأثير حاسم
رغم أن الولايات المتحدة لم تعد منخرطة بشكل مباشر في تفاصيل المشهد السوري كما كانت في السنوات الأولى للصراع، إلا أن تأثيرها لا يزال حاضرًا بقوة، لا سيما في ما يتعلق برسم حدود النفوذ الإقليمية وضبط إيقاع التحالفات الدولية. فواشنطن، التي تحتفظ بوجود عسكري في الشمال الشرقي تتحضر للانسحاب من سوريا، لتنفيذ رغبة ترامب هذه ستحتاج الى خلق توازن و تفاهم بين الطرفين ، تركيا و اسرائيل بالاضافة الى روسيا، هذا التوازن الاستراتيجي بين الاطراف، سيكون مفتاح انسحابها عسكريا.
تعمل واشنطن الى جانب هذا الخط، على ضمان عدم تمدد الجهاديين و ضبط هذه المجموعات و خاصة الاجانب
و هذا ما يبرر استمرار الضربات الأمريكية المركزة ضد قيادات جهادية في إدلب ومحيطها.
اليوم ما يفسر الغياب الأمريكي عن المبادرات السياسية الكبرى في سوريا، وترك المجال مفتوحًا أمام روسيا وتركيا، هو رغبة واشنطن في إدارة الأزمة من الخلف، دون الانخراط المباشر في تفاصيل المرحلة الانتقالية.
ومع ذلك، فإن أي تحرك مفاجئ من دمشق خارج الحسابات و التوازنات التي تريد تثبيتها سيدفع واشنطن الى مواجهتها عبر الحلفاء و العقوبات ، او حتى التدخل المباشر.
ما الذي يمكن أن يحدث لاحقًا؟
في ظل هذه التعقيدات، هناك عدة سيناريوهات محتملة لمسار الأوضاع في سوريا:
1. استمرار التصعيد الإسرائيلي، ولكن ضمن حدود محسوبة، بحيث تظل الضربات مركزة على أهداف محددة، دون الدخول في مواجهة شاملة.
2. تصاعد التوتر بين الحكومة السورية وتركيا، إذا استمرت أنقرة في محاولة فرض نفوذها على دمشق، سواء عبر التدخلات السياسية أو العسكرية.
3. تغيير في التحالفات الإقليمية، حيث قد تضطر الحكومة السورية إلى إعادة تقييم علاقاتها ببعض الدول، بحثًا عن توازن جديد يحفظ لها الاستقرار.
ختامًا: من سيدفع الثمن؟
الوضع في سوريا يزداد تعقيدًا، حيث تتقاطع مصالح دولية وإقليمية تجعل من البلاد ساحة لصراعات متعددة المستويات. وبينما تستمر إسرائيل في تصعيدها، وتتحرك تركيا وفق حساباتها الخاصة، تجد الحكومة السورية نفسها محاصرة بين تحديات الداخل وضغوط الخارج.
وفي النهاية، يبقى الشعب السوري هو الأكثر تضررًا، إذ لا تزال البلاد تدفع ثمن التجاذبات السياسية والعسكرية التي لم تجد طريقها إلى الحل بعد. وبينما تسعى الحكومة الجديدة لترسيخ سلطتها عبر السياسة الوقائية، فإن النجاح في تحقيق هذا التوازن يظل مرهونًا بقدرتها على المناورة بين القوى الإقليمية دون أن تتحول إلى مجرد ورقة في لعبة النفوذ الدولية.
ليفانت: يلماز سعيد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!