-
أربع مقاربات جديدة للخلاص الوطني في سوريا: طريق النجاة من الهاوية
تمر سوريا بمرحلة تاريخية مصيرية اليوم بعد فشل قوى المعارضة السياسية والمسلحة في تحقيق أهداف ثورة 2011 بإنشاء دولة الحكم الرشيد التي تضمن التغيير والحرية والمساواة للسوريين.
والأخطر من ذلك هو فشل قوى المعارضة في تقديم نموذج وطني بديل عن نظام الأسد فيما يعرف بـ"المناطق المحررة"، بل عملت على استنساخ ممارسات نظام الأسد الإجرامية من قمع وتعذيب وسجون سرية وثقتها التقارير الحقوقية الدولية.
وإلى جانب وحشية وطائفية نظام بشار الأسد الذي استجلب الاحتلالات ورفض تنفيذ أي إصلاحات دستورية وطنية مفضلًا إحراق البلد، تتحمل المعارضة أيضاً مسؤولية تمزق النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد لأنها قادت الثورة بما يمكن تسميته بـ "عقلية الخوارج الصفرية" نتيجة احتكار الإخوان المسلمين وعصابات (الخوارج الجدد) المعروفين بتنظيمات الإسلام السياسي لمؤسسات المعارضة ما نتج عنه سلسلة هزائم فادحة بشرياً واستراتيجياً وعزل الثورة السورية عن العالم، ووصلت اليوم لمحطة "الكيان السني" و"الشام الشمالية"، التي تهدف لتقسيم الجغرافيا السياسية السورية بدل تبني مشاريع وطنية شاملة لا تقوم على التمييز والفاشية، لتقاسم تنظيم "قسد" العنصري الانفصالي ذات الأهداف.
ولولا رفض المعارضة والفصائل المسلحة قتال تنظيم "داعش" في عدة مناسبات آخرها في العام 2017 نتيجة انعدام القراءة السياسية وهيمنة "الإيديولوجية"، لما كانت منطقة الجزيرة السورية اليوم تحت حكم قوات "قسد" ومليشيا "PKK" الغير سورية والمصنفة إرهابية عالمياً، وفي سياق هذه "الكارثة الوطنية" التي كلما طال أمدها كلما خسرت سوريا والمواطن السوري أكثر على كل الصعد، وللنجاة من حافة الهاوية التي نقف عليها جميعاً لابد من تبني 4 مقاربات عملية، جريئة، وواقعية، تهدف إلى وضع سوريا وشعبها على مسار جديد يعيد بناء الدولة والمجتمع ويحفظ كرامة السوريين.
تبني مفهوم "سوريا أولاً"
"سوريا أولاً" يجب أن يكون العنوان الوطني الحاضن لجميع السوريين على اختلاف توجهاتهم الفكرية والمجتمعية بصفته حجر أساس للهوية القومية والوطنية، لاسيما أن الإنسان السوري دفع ثمناً باهظاً نتيجة زجه في صراعات إقليمية ودولية على حساب مستقبله ومصالحه وأمنه ما أوصله إلى المذابح والإبادة والتهجير في الوقت الراهن.
آن الأوان لأن يضع السوريون مصالحهم فوق كل اعتبار، وأن يتفقوا على أن الخلاص من هذه الكارثة لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وضعوا مصلحتهم الوطنية ومستقبل أبنائهم في صدارة أولوياتهم.
مفهوم "سوريا أولاً" يعني أن السياسات الداخلية والخارجية يجب أن تكون موجهة نحو تطوير وخدمة سوريا وشعبها، بعيداً عن التبعية لمشاريع ولقوى إقليمية أو دولية أو الأيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية، ويتطلب ذلك التخلي عن الأجندات الأيديولوجية والعرقية والدينية التي أدت إلى تمزيق النسيج السوري، والتركيز على بناء دولة مستقلة وقوية تهدف إلى رفاهية مواطنيها وفق تبني مبدأ الخبير الاقتصادي السوري المخضرم د. أسامة القاضي (نحن ننتصر بالنموذج الاقتصادي) وأنا أضيف و"الإنساني" .. يجب أن نبني للأجيال القادمة إرث "السلام والبناء" بدل من ننجب أجيالاً من "الموتى" هم وقود لمعارك إيديولوجية عبثية لا نهاية لها سوى الفناء لذلك فإن "سوريا أولاً" ليس مجرد شعار، بل هو التزام فعلي بوضع مصلحة وقدسية الإنسان السوري فوق كل الاعتبارات الأخرى.
إن مسؤولية سوريا على عاتق كل فرد من أبناء شعبها إذ لولا تخلي السوريون منذ عقود عن "حقوقهم السياسية" من أجل قضايا خارجية لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، كلنا مسؤول! كما أن تجربة السوريين المريرة في رحلة نجاتهم من الإبادة أثبتت أن سوريا الحرة هي الوطن الوحيد الجامع والحاضن لهم.
تبني المبادئ السياسية الوطنية
أثبتت العقود الأخيرة أن الخلافات الأيديولوجية سواء الدينية أو العرقية، كانت سببًا رئيسيًا في تفتيت النسيج السوري وتعميق الانقسامات بين مكونات المجتمع ما صب في صالح بقاء نظام الأسد المجرم حتى اليوم، لذلك، يجب أن يتم الاتفاق على مبادئ سياسية وطنية واضحة وجامعة ومجربة في عدة دول باتت اليوم قوى اقتصادية إقليمية ودولية تشكل هذه المبادئ الأسس الصلبة لبناء دولة سوريا الجديدة، تضمن المساواة والحرية لجميع أبنائها وهي:
العلمانية الديمقراطية: الدولة يجب أن تكون علمانية ديمقراطية تضمن عدم أدلجة الدولة والمجتمع وعدم إقامة أحزاب سياسية على أسس دينية أو قومية أو فئوية لضمان عدم تكرار حقبة "البعث" ومشاريع "الاخوان" و"قسد" العنصرية الفاشية بشكل واضح وحاسم، فـ "الدولة المدنية" التي نادت بها قوى المعارضة لا تضمن حياد الدولة وحياة سياسية عادلة بالمطلق بل تشكل جسراً لعبور المؤدلجين والشمولين كـ "الإخوان المسلمين" والسيطرة على السلطة والدولة وتكرار نموذج الحكم في إيران باسم "تطبيق الشريعة"، وبالتالي سندخل مجدداً في عقود دموية إبادية جديدة باسم الدين.
أيضاً يجب المصارحة بأن العلمانية لا تعني معاداة الدين نهائياً، بل الحفاظ عليه من الانتهازيين والمجرمين الذين يستخدمونه سلاحاً لقمع المجتمع بغطاء سياسي، وهي الإطار الذي يضمن العدالة والمساواة بين جميع السوريين وشاهدنا في الثورة نماذج مروعة في استخدام الدين كسلاح لقهر الإنسان السوري.
لا يمكن بناء سوريا جديدة بدون بناء نظام حقوق ومواطنة واضح وقوي ومحمي يتمتع فيه كل سوري بنفس الحقوق السياسية والمدنية بغض النظر عن دينه أو عرقه وأن يكون كافة السوريين شركاء متساوين في بناء مستقبل بلادهم.
إن الابتعاد عن الأيديولوجيات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين وحزب البعث وحزب العمال الكردستاني ضرورة لبناء سوريا قوية وديمقراطية، فقد أثبتت هذه الأيديولوجيات أنها تتعارض مع قيم الحرية والمواطنة، وتساهم في نشر المزيد من المعاناة والاستبداد والارهاب.
اللامركزية الإدارية: من المهم تبني مفهوم تمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها بما يتناسب مع احتياجاتها، اللامركزية الإدارية وفق نماذج دول العالم الحر تعزز الوحدة الوطنية، عبر إعطاء المناطق صلاحيات واسعة لإدارة مواردها وشؤونها بما لا يمس وحدة سوريا السياسية والجغرافية، وتقلل من الهيمنة الحكومية المركزية التي ساهمت في تهميش مناطق عدة خلال العقود الستة الماضية.
موقف جديد و نظرة مختلفة للصراعات الاقليمية والعلاقات الخارجية
على مدار أكثر من 80 عامًا، تم استخدام الصراع مع إسرائيل كأداة سياسية من قبل الأنظمة الحاكمة في سوريا والتي وظفت الشعارات القومية والدينية لتبرير القمع الداخلي وتخدير الشعب بوعود خيالية، ولكن في الواقع لم يحقق السوريون شيئًا من هذا العداء الطويل سوى مزيد من الفقر والاستبداد والإرهاب، بل الأسوأ من ذلك، أن تلك الشعارات انتهت بتمزيق بسوريا وتشريد أهلها وقتلهم بسكاكين "محور المقاومة"!.
ورغم فرضية أن "نظام الأسد يحمي إسرائيل" ينفيها الواقع بفضل الضمان الأمريكي لأمنها بالدرجة الأولى، وأيضاً أن الأسد لم يستطع حماية نفسه لولا التدخلات الروسية والإيرانية، لكن النظام السوري استخدم قضية الجولان المحتل التي يجب الإشارة إلى أنه لولا رعونة وفشل حافظ الأسد وشركائه البعثيين في إدارة حرب 67 "الغير مبررة" لما احتلت، (كورقة تكتيكية) لخلق حالة من القمع والاستبداد الداخلي مستفيداً من حالة "اللاحرب واللاسلم" كذريعة لتأجيل الإصلاحات الداخلية وتجنيد الدولة بكاملها لمواجهة التهديد الإسرائيلي الخارجي المفترض، وأيضاً من خلال مفاوضاته مع "إسرائيل" عبر الولايات المتحدة وتركيا استفاد الأسد (الأب والابن) في تحسين صورته الدولية وإظهار نظامهم كفاعل إقليمي لا غنى عنه.
حان الوقت لسحب هذه الورقة من نظام الأسد وإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل بشكل براغماتي وواقعي، بدلاً من الاستمرار في العداء "غير المثمر" و"العقيم"، إذ يمكن للسوريين البحث عن مقاربة جديدة تحقق مصالحهم الوطنية، تماماً كما فعلت القوى الفلسطينية حين تحالفات مع إيران وروسيا، وكما تفعل دول المنطقة والعالم أيضاً في تأسيس علاقاتها الخارجية على أساس "المصالح الوطنية والأمنية العليا".
الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء قطر السابق، شرح في مقابلة عام 2022 كيف ساهمت العلاقات مع إسرائيل في كسب تأييد المؤسسات الأمريكية لتخفيف الضغوطات عن بلاده وتحقيق الازدهار التي تعيشه قطر اليوم، وكلنا نرى اليوم كيف أصبحت قطر وسيطاً مطلوباً ولاعباً إقليمياً ودولياً لاسيما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر حيث نشاهد رئيس الموساد يسافر للدوحة عدة مرات خلال الشهر الواحد وسط ترحيب كافة الأطراف بما بها الفلسطينية، هذا الأمر يأتي ضمن السياسات التي "حمت مصالح الشعب القطري وأمنه واستقراره" دون الالتفات إلى المزايدات الفارغة، والنتيجة أن المواطن القطري أصبح مرحب به من جميع دول العالم ومضرب المثل في النمو والازدهار، وهذا ما نريد أن نعيشه في سوريا أيضاً، كبديل عن السياسات الخرقاء التي تكرس الإفقار والمعاناة والقمع والجهل ويستحق الإنسان السوري ذلك.
نحن اليوم بحاجة لأكثر من أي وقت مضى، لتبني موقف أكثر براغماتية يعترف بتعقيدات العلاقات الدولية ويبحث عن فرص لتحقيق أهداف ثورة 2011 عبر قنوات دبلوماسية والتي تبرع بها إسرائيل بحيث نحقق أكبر مكاسب ممكنة، بدلاً من التمسك بمواقف متخشبة ومتشنجة لم تحقق سوى العزلة والدمار.
إصلاح الخطاب السياسي والإعلامي
من يقود الخطاب الإعلامي والسياسي الحالي للثورة السورية طوعه بلغة ومفاهيم خشبية كـ"إيران والبعث والقاعدة" تماماً، وتحمل في طياتها العداء والمواقف العصبية والانفعالية مع دول المنطقة والعالم، بدل من أن يحمل صورة مشرقة لسوريا المستقبل بأنها ستكون شريكاً في تنمية وازدهار المنطقة وهذا جوهر ما أراده السوريون عام 2011 من تغيير نظام الأسد.
الخطاب الراهن أسهم في إنهاء أو تراجع الدعم الدولي والإقليمي لثورة السوريين، لذلك نحن بحاجة إلى خطاب جديد، عماده الإيمان بالتغيير السياسي وبناء دولة علمانية ديمقراطية، وأن يكون معتدلًا وواقعيًا، يقدم رؤية متكاملة لسوريا المستقبلية كدولة تحترم حقوق الإنسان والحريات وكذلك مصالح دول المنطقة وأمنها الوطني، ويجب أن يقوده سياسيون وطنيون ناضجون مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، وليس شخصيات مستنسخة عن الملا عمر أو بن لادن أو الخميني أو حافظ أسد.
سوريا بحاجة إلى "نخبة إنقاذ" يقودها قادة من طراز الكتلة الوطنية أثناء تأسيس سوريا قادرين على توحيد البلاد وإعادة بنائها على أسس متينة تمنع تكرار حكم الاستبداد والإرهاب، ورؤية تضمن تمتع الأجيال السورية القادمة بنظام سياسي واجتماعي يحفظ كرامتهم وأمنهم.
الخلاص من الكارثة الوطنية السورية يتطلب خطوات جديدة وشجاعة أولاً عبر تبني مفهوم "سوريا أولاً"، وهذه المقاربات الأربعة تمثل الفرصة الأخيرة لتحقيق هذا الهدف وإنقاذ البلاد والسوريين ليس من الفناء لأنه رحمة مقارنة بالعذاب الراهن والمستقبلي القادم.
عبد العزيز العمر - المنسق السياسي لتيار سوريا أولا \ ليفانت
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!