-
الساروت شهيداً (واقع وأسطورة)
الساروت شهيداً (واقع وأسطورة)
فرحان مطر
لم يكن عبد الباسط الساروت أول الشهداء، ولن يكون بطبيعة الحال آخرهم على طريق الجلجلة السورية، غير أن موته بهذه الظروف الاستثنائية جاء ليشكل صدمة في الوسط الثوري السوري المعارض لنظام الإجرام الأسدي، فما الذي جاء به هذا الموت من جديد، وما العِبَر التي يمكن التوقف عندها؟!. وما الذي ميّز تلك الشخصية عمن سبقوه في الموت على دروب الحرية؟!. سواء كانوا من المناضلين المدنيين السلميين، أو أولئك الذين اختاروا، أو ربما دفعتهم الظروف (المعقدة) لاختيار السلاح في مواجهة العنف اللا محدود الذي انتهجه نظام الإجرام الأسدي منذ اللحظات الأولى لاندلاع شرارة الثورة السورية في سبيل الحرية والكرامة قبل تسعة أعوام مضت.
لست في وارد عرض سيرة الحياة الشخصية لهذا الفتى السوري الذي دخل معترك الحياة من باب الرياضة، لافتاً إليه الأنظار كحارس مرمى لفريق الكرامة، وهو الذي خرج من هذه الحياة محمولاً على أكفّ آلاف السوريين كما يليق بوداع العظماء عند كل الشعوب.
سيرة حياة عبد الباسط الساروت خير مثالٍ لجمهور واسع من شباب الثورة الذين انخرطوا فيها منذ أيامها الأولى بصورة عفوية تعبّر عن صدق حقيقي، ومشاعر أصيلة، لم يكن يقف خلفها لا الأيديولوجيات، ولا التنظيرات السياسية (على أهميتها)، ولا التنظيمات، ولا الأحزاب السياسية بأشكالها، وتجاربها.
الشباب السوري الذي فتح عيونه، وتفتّح وعيه في ظل نظام حاكم ألغى الحياة السياسية في سوريا، وعمّم الخوف في النفوس، ولجأ إلى كتم الأنفاس، ومنع أية مظاهر للتفكير الحر بضرورة التغيير، وكأنه حكم سماوي لا مجال لمناقشة دساتيره.
هذا الشباب السوري الذي لم يرَ في حياته سوى شعارات هذا النظام، ومؤسساته القمعية، غير أنه أدرك بحسه العفوي خطورة الأوضاع التي تهيمن على حياته، من خلال سيرة المجازر التي ارتكبها النظام الأسدي في المدن السورية، والسجون التي صارت رمزاً سيئاً يشبه كابوساً لا ينتهي.
لذلك فإن هذا الشباب السوري، وعندما اندلعت شرارة الثورة الأولى في سوريا لم يتوان عن النزول إلى الشوارع دون مقدمات نظرية أو تبريرات، فكانت الثورة هي اللحظة المنتظرة في لا وعي الجميع ممن عانوا من هذا الظلم، والفوات الاجتماعي الذي سببه لهم في حياتهم العامة.
عبد الباسط الساروت، هو النموذج الأمثل لهؤلاء الشباب السوري بعفويته، وصدق إيمانه بقضية الحرية، وباندفاعه إلى النهاية نحو تحقيق أهداف الثورة.
في النظر إلى شباب الثورة السورية الذين هم على هذا المستوى من الوعي العفوي، والإيمان بحتمية الثورة كخيار وحيد من أجل الوصول إلى الحرية، (وهم هنا يشكلون شرائح واسعة، وربما كانوا هم الأغلبية أساساً)، نستطيع تلمّس التعرجات التي حصلت، والتغيرات الدراماتيكية التي فرضت نفسها عليهم في عديد من المحطات، والمفاصل، وبالتالي يمكن قراءة ما يكمن خلف الصورة الأولية المباشرة لهذه التغيرات.
من خلال ذلك يمكن فهم كيف انتقل الشباب السلمي، بفعل مواجهة آلة القمع الأسدية، وعوامل موضوعية أخرى تداخلت، إلى السلاح الذي بدأت بوادره الأولى في مجموعات الجيش الحر التي كان هدفها الأول حماية المتظاهرين السلميين في الساحات، وأساس هذه المجموعات هي تلك العناصر التي قامت بالانشقاق عن الجيش السوري رفضاً لأوامر قتل المدنيين، وصولاً إلى تطور المسألة وتشعبها ودخول الإسلام السياسي وشعاراته عبر العناصر المتطرفة التي أخرجها النظام من سجونه عندما حانت اللحظة المناسبة لاستثمارها لتشويه الثورة وحرف مسارها السلمي الديمقراطي، وتأثير المال السياسي الذي خدم في النهاية التوجهات البعيدة عن روح الثورة.
هذه التطورات العاصفة على مدار سنوات الثورة، كان الشباب السوري هو وقودها الأول، فكم من الشباب النقي الذي تغير مسار حياته، وانتقل من هذه الجهة إلى نقيضها بفعل ظروف قاهرة، ودفع حياته نتيجة خيار خاطئ.
بعد كل هذا تأتي مسيرة حياة عبد الباسط الساروت لتمثل وتختصر كل هذه الأحداث بشخصه، فهو الثائر المدني الذي عرفته ساحات وشوارع حمص يهتف ويغني وينشد للثورة يداً بيد مع الفنانة فدوى سليمان الثائرة المدنية التي تحمل وعياً سياسياً وتوجهاً فكرياً لم يتعارض معه عبد الباسط الساروت، أو قل أنه لم يضعه شرطاً للوقوف إلى جانبها في مناهضة النظام والثورة عليه.
عندما اشتد الحصار على حمص، لم يخرج الساروت طالباً النجاة بروحه كما فعل غيره، وهو أمر مفهوم وطبيعي تماماً، بل آثر البقاء إلى النهاية مع الناس المحاصرين، وحمل السلاح كخيار أخير للبقاء في المواجهة والدفاع عن النفس.
خلال فترة الحصار قدم الساروت أمثلة عملية على التفاني والعمل بروح الشباب الثائر، وخسر أربعة من أشقائه، وكان من السهل تماماً أن يكون خامسهم في معركة الطحين المعروفة.
عندما أرغم الساروت وغيره كثيرون على الخروج من حمص المحاصرة، وبسبب اختلال موازين القوى بشكل كبير، لم يعتبر ذلك نهاية المطاف بل هي محطة جديدة، في مواقع مختلفة.
الساروت شهيداً (واقع وأسطورة)
تأثر عبد الباسط الساروت الشاب البسيط البعيد عن السياسة وتنظيراتها بالظروف القاهرة المحيطة، وربما تراه حاول الاستفادة منها لخدمة هدفه الأسمى الحرية، والمتمثل بإسقاط النظام.
هنا تراجعت صورة الساروت، بفعل هذه التغيرات الجديدة، إلا أن الأمر لم يدم طويلاً لديه، فهو مثال على صاحب الضمير الحي الذي استيقظ بعد كبوة قصيرة، وعاد سيرته الأولى في تبني قيم الثورة الأولى (حانن للحرية).
غاب عن الإعلام الذي لم يكن يوماً هدفه، وابتعد عن الاستثمار السياسي والمالي الذي تورط به كثيرون باسم الثورة، وعاش فقيراً لاجئاً في تركيا، وعاد بعدها لحمل السلاح ضد النظام، حتى لقي حتفه في معركة حربية على جبهات ريف حماة الغربي.
هذه التفاصيل التي يعرفها السوريون عن شخصية عبد الباسط الساروت هي التي رأوا فيها صورتهم، وهي التي جعلتهم أمام مرآة أنفسهم، يتساءلون: ما الذي حلّ بنا؟!. ماذا فعلنا؟!.
هذا الموت المشرّف لشاب نذر حياته لقضية الحرية، ولم يهادن لحظة واحدة.
هذا الصدق المطلق، وهذه العفوية الصارخة.
هذا الإيمان الذي لا يتزعزع بعدالة القضية الذي كان مثالاً حياً له في حياته، وفي مماته، كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت من الشاب الثائر عبد الباسط الساروت رمزاً لكل الثائرين الأحرار الصادقين العفويين البعيدين عن التنظيرات والأيديولوجيات المعقمة، هي بالذات التي انتقلت به من حيز الوجود العادي، إلى فضاء أوسع من الخلود، حين صار مثالاً، وأسطورة حية تأبى الفناء.
سيخلد تاريخ الثورة السورية هذا الشهيد، الذي لن تغيب ابتسامته، ولن يغيب صوته ما دام هناك أحرار يواصلون السعي على دروب الحرية.
الساروت شهيداً (واقع وأسطورة)
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!