-
أحداث الحادي عشر من سبتمبر ونظرية المؤامرة
نظرية المؤامرة جذابة ومثيرة للانتباه بشكل فائق قد يستنزف قدرات وطاقات الكثير من المبدعين والمجتهدين الذين ينزلقون مرغمين أو غير دارين بانزلاقهم في «الثقب الأسود» الذي لا بد من الانزلاق في منعرجاته لكل مهتم -وهو محق- بكشف ملابسات مؤامرة ما يحتمل أنها قد تمت وراء الكواليس، وأفضت إلى طوفان من الخَبَثِ طال الكثير من حياة البشر.
وذلك الجهد مبادرة تستحق التقدير من الناحية الأخلاقية لكل من يتصدر للقيام بها. ولكن الواقع المرير يقتضي أيضاً التحذير لكل أولئك ذوي النوايا الطيبة من الانزلاق في فخ سوف يضيع الكثير من طاقاتهم، ويستنزف الكثير من جهودهم التي يغلب ألا تستطيع إدراك غاياتها، ليس لقصور في قدرات أولئك المجتهدين، وإنما للطبيعة السرية والمخاتلة والمواربة لآليات عمل الفاسدين والمفسدين على المستوى الكوني، والذين ينضم في عديدهم، ويتلطى في كنفهم أجهزة أمنية عتيدة وخبيرة في كل فنون وتلاوين التلفيق والتزوير والتضليل. وهي حقيقة لا بد من الالتفات إليها لتجنب هدر الطاقات الاجتهادية المحدودة في غير موضعها، أو الأكثر سوءاً من ذلك متمثلاً بإحباط أولئك المجتهدين عند ارتطامهم بذلك الحاجز الوحشي من السرية والمواربة والتورية والتلفيق الأمني والسياسي الذي يتقنه الأقوياء ومن لف لفهم من جحافل الفاسدين والمفسدين على المستوى الكوني.
وقد يكون المدخل الأكثر عقلانية وواقعية في مقاربة مثل تلك الموضوعات من خلال نهج «توصيل النقاط» والذي فحواه محاولة ربط وتفسير الحقائق المعلنة، سواء بشكل صريح أو موارب، ودون الدخول في معترك البحث الاستقصائي المضني عن الحقائق المخفية، والتي قد يسقط في لجها الانتباه إلى الحقائق المعلنة، ويضيع في مساربها الباحث في لج تفاصيل الخفايا والخوابي. وإذا أخذنا مأساة أحداث الحادي عشر من سبتمبر كمثال عياني مشخص لتطبيق نهج «توصيل النقاط» عليه، يمكن للمراقب الحصيف العودة إلى حقيقتين اثنتين تم الإشارة إليهما بشكل صريح في قنوات الإعلام المتسيد، دون أن يتنطع أي من العاملين في تلك المؤسسات الإعلامية للاجتهاد أو حتى سؤال نفسه عن مآل تلك الحقيقتين، ومدلولهما السياسي وارتداداته في كل أحياز المجتمع الأمريكي وعلى المستوى الكوني.
والحقيقة الأولى تتمثل في إعلان وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، دونالد رامسفيلد، في العاشر من سبتمبر من العام 2001، أي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بيوم واحد، بأن التدقيق في البيانات المالية لوزارة الدفاع التي يرأسها أسفر عن اكتشاف تسرب مالي تراكمي من حساباتها بقيمة 2.3 تريليون «وليس مليار» دولار، أي 23000 مليار دولار، لا تعرف الوزارة وإدارتها أين ذهبت وكيف صرفت. وهي الحقيقة التي تم تجاهلها عمداً أو بسبب هول الفاجعة التي حدثت في اليوم التالي، ولم يتم التطرّق إليها لاحقاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهي الفجوة المالية العملاقة في ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية التي تم ترقيعها بالأموال الهائلة التي تم ضخها إلى شرايينها على حساب دافعي الضرائب في الولايات المتحدة في المرحلة الانفعالية التي تلت تلك الأحداث المهولة، والتي لخصها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن آنذاك بقوله: «لقد كان دمي يغلي. سوف نجد من فعل ذلك، وسوف نركل مؤخرتهم»، وهو ما عنى من الناحية السياسية المحضة غزو بلدين اثنين هما أفغانستان، ومن ثم العراق بغض النظر عن علاقة أي منهما الحقيقية بما حدث في الحادي عشر من سبتمبر.
والحقيقة الثانية تمثلت في واقع التراجع الاقتصادي العميق الذي كانت تعيشه الولايات المتحدة قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، جراء عقابيل انبثاق فقاعة استثمارات وشركات دوت كوم في مارس من العام 2000، ونتج عنها تراجع بمعدلات تصل إلى حوالي 400% في أسهم الشركات الكبرى المدرجة في مؤشر نازداك Nasdaq الأمريكي، وهو ما عنى أزمة وجودية في أس الجوهر المحرك للاقتصاد الأمريكي الذي تمثل تلك الشركات الكبرى مصلحة تشخيص صلاحية نظامه، وهو الذي لم يجد من مخرج أمثل لحل تلك الأزمة سوى ما تم الإشارة إليه في وثيقة أصدرها «مشروع القرن الأمريكي الجديد»، وهو مركز أبحاث اسمه باللغة الإنجليزية «The Project For the New American Century» مؤسسوه الأساسيون نائب الرئيس الأمريكي آنذاك، ديك تشيني، ووزير دفاعه، دونالد رامسفيلد، وعراب فكر المحافظين الجدد، بول ولفويتز، وغيرهم من رموز المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، قبل بضعة أشهر من أحداث الحادي عشر من سبتمبر فقط، وكان من جملة خارطة طريقها لإخراج الولايات المتحدة من ضائقتها الاقتصادية نقطتان مهمتان؛ الأولى: احتلال العراق بشكل مباشر من أجل تحقيق «حضور القوة الأمريكية بشكل ذي وزن فعلي في منطقة الخليج» عبر التذرع بحجة «امتلاك العراق لأسلحة تدمير شامل»، والنقطة الثانية تمثلت في السعي لتخليق الزناد القادح الضروري لتحريك الآلة العسكرية للولايات المتحدة لتعيد إحكام قبضتها التي أصبحت فضفاضة في غير موضع من أرجاء الأرضين بسبب صعود أقطاب اقتصادية مستحدثة في أوربا والصين واليابان لا تخضع بشكل مباشر للأوامر الأمريكية كما كانت في العقدين الذين تليا الحرب العالمية الثانية، وهو ما كان ممكن التحقيق عبر تحريك الغول العسكري الأمريكي ليسيطر على مصادر الثروات الباطنية والطاقة والمواقع الجغرافية الاستراتيجية عسكرياً أو لقربها من خطوط التجارة العالمية، وخاصة البحرية، بشكل يمكن من خنق تلك الاقتصادات الناهضة إن لم تستجب لإرادات الأمريكان، سواء بحرمانها من موارد الطاقة أو بالتهديد العسكري المباشر.
وفي منطوق تلك الوثيقة فإن تخليق ذلك الزناد القادح لا بد أن يكون كما ورد حرفياً فيها عبر «حدث كارثي تهشيمي من نوع ما، من قبيل حادثة بيرل هاربر» في استدعاء للكيفية التي أطبقت الطائرات اليابانية بها على الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي، إبان الحرب العالمية الثانية، وكان بنتيجته تغيير الرأي العام في الولايات المتحدة من رأي عام ممانع للتدخل في حرب عالمية شنها الأوربيون فيما بينهم، إلى رأي شعبوي غوغائي هيجاني ناقم ينادي بقرع طبول الحرب والانتقام ممن تجرأ على قتل الجنود الأمريكيين في «غزوة» بيرل هاربر، وهو التغيير في الرأي العام الأمريكي الذي لولاه لما كان من الممكن تحريك الآلة الحربية الأمريكية العملاقة لاحتلال العراق وأفغانستان، وما استتبعهما من مفاعيل على المستوى الداخلي في الولايات المتحدة وعالمياً. وسر الإشارة لحادثة بيرل هاربر وما بعدها يكمن في أنها كانت الترياق السحري الذي أخرج الولايات المتحدة من نفق الكساد الاقتصادي العظيم الذي حل على الكرة الأرضية بأسرها في العام 1929، ولم تخرج الولايات المتحدة منه إلا عقب انخراطها في الحرب العالمية الثانية بشكل مباشر، وتبني نموذج الاقتصاد الحربي الذي كان قائماً على إنفاق منقطع النظير للدولة على الإنتاج الحربي، وتحويل كل الطاقات البشرية والإنتاجية في المجتمع لخدمة ذلك الهدف، وهو ما أنتج زيادة في النتاج القومي وخروج الولايات المتحدة من براثن الكساد العظيم، الذي كانت الولايات المتحدة على أعتاب ما قد يتفاقم ليصبح مثل سليفه في المرحلة إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، الكارثية الأليمة.
ولمن يريد الاستزادة في تفاصيل تلك الوثيقة السالفة الذكر، يمكن مراجعة المقال البحثي للصحفي الطليعي المخضرم جون بيلجر John Pilger في صحيفة New statesmen الصادر في 16 ديسمبر من العام 2002. وفي الواقع فإن تسلسل الأحداث الموضوعي يشي بأن ما حدث في الولايات المتحدة عقب إصدار تلك الوثيقة يكاد أن يكون شبه تطبيق عملي لمخطط غير مشهر علانية، ولكنه أيضاً ليس سرياً بالمطلق. وبغض النظر عما حدث من تفاصيل صغرى هنا وهناك، وعن تلبس أو تنطع تنظيم القاعدة لتحمل المسؤولية عما حدث في يوم الحادي عشر من سبتمبر، وتحميل مجموعة من الجهاديين مسؤولية ما حدث، وهو ما تبين أن بعضاً من أفرادهم ما زالوا أحياء يرزقون في بلدانهم، مثل وليد الشهري الذي ما زال من قائمة أعضاء تنظيم القاعدة المسؤولين عن الطائرات المختطفة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يزال على قيد الحياة في المملكة العربية السعودية، كما أشارت إليه تحقيقات هيئة الإذاعة البريطانية التي لم يلتفت إليها أي من وسائل الإعلام المتسيدة التي ما زالت متركزة على القصة التي قدمتها لها الحكومة الأمريكية ووزير دفاعها آنذاك.
وباتباع نهج «توصيل النقاط» يمكن النظر بكثير من الريبة والشك إلى ما حدث عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي يبدو أن معظمها حدث في تعاقب مثير للريبة قد يستحيل تحققه بشكل تصادفي ما لم يكن مخططاً له بعناية فائقة. وهو الاستنتاج الذي لا بد أن يقودنا بشكل عقلاني إلى عدم الانزياح لدائرة إثبات ذلك الاستنتاج المنطقي بدلائل دامغة أكثر لصعوبة الوصول إليها، كما أشرنا إليه آنفاً، بالإضافة إلى أهمية عدم هدر الطاقات الاجتهادية المحدودة في تلك الجلجلة، وضرورة توجيه بوصلتها باتجاه كشف المفاعيل الكارثية التي أنتجتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر على مستوى الشعوب المستضعفة ومجتمعاتها، ومحاولة الاجتهاد قدر الممكن لتصحيح عقابيل ذلك بكل شكل متاح، وعدم نسيان الواجب السرمدي اللازم على كل قادر عليه بعقله أو لسانه أو قلمه أو صوته، وأعني هنا واجب منافحة الاستبداد المقيم، والذي كان توطده بأشكال بربرية مستحدثة في العالم العربي أحد أهم نواتج أحداث الحادي عشر من سبتمبر، منظوراً إليها من زاوية المستضعفين المقهورين الذين دفعوا أثماناً باهظة تتجاوز بآلاف مؤلفة الأثمان المفجعة التي دفعها المواطنون الأمريكيون في ذلك اليوم المشؤوم أو الذي صُيِّر مشؤوماً.
ليفانت - مصعب قاسم عزاوي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!