-
كذبُنا الأبيض وسخام المتلونين
إذا كان الكذب الأبيض في الكثير من الأحيان مغتفر طالما ليس له أيّ ضرر مادي أو معنوي بالغير، وأن التّظاهر بغير ما يؤمن به الفرد في ظل الأنظمة الاستبدادية والمجتمعات التي تنتعش فيها الوشاية خوفاً من البطش في حال إذا ما أباح بما يُضمره من الآراء والأفكار والتصورات، هو عملياً غير مستحقر لدى الكثير من شيوخ ومتصوفة المسلمين، بما أن ذلك التصرف إن لم يكن محموداً كلياً فهو غير مذموم بالجملة، بل ونرى بأن الإمام أبي حامد الغزالي يبرر بعض أنواع الأكاذيب إن كانت غير ضارة بالآخرين وجالبة بنفس الوقت للسلام والأمان لصاحبه، وحيث ورد في موسوعته "إحياء علوم الدين" قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله، فدخل داراً، فانتهى إليه، فقال: أرأيت فلاناً؟ ما كنت قائلاً ألست تقول: لم أره؟ وما تصدق به، وهذا الكذب واجب.
ونتحدث ههنا عن الحاجة إلى الكذب الأبيض في الظروف القصوى ليس حباً بالكذبِ، ولا تبريراً لاقترافه، ولا رغبةً بشرعنته، إنما نقول ذلك خشيةً على صاحب تلك الحاجة في الأزمات، بما أن الخطاب القائم على العدل والموضوعية سوقه عادةً ما يكون ميّتاً أوان اندلاع الثورات والحروب، إذ في فترة المنازعات يُلاحظ بأن المنافق المتطرف وحده الفائز ويكون محط ترحيبٍ به، وطبعاً لكل متطرفٍ فضاؤه المتوافق مع المزاج العام والبيئة التي يتطرف فيها وينسجم معها، ولا غرابة إن غيّر المتطرف ضفته بسرعة البرق وانتقل الى الشط الآخر مثل أولئك الذين كانوا يعبدون بشار الأسد واليوم يلعنونه ليل نهار، بينما الذي يحكم على الأحداث والوقائع والأشخاص بمنطق الحق والانصاف فلا مكان له بين جموع الهائجين، ولا يُخفى على الناظر بأن ثقافة التلوُّن معمول بحذافيرها في سورية سابقاً وفي أغلب البؤر الساخنة راهناً، وذلك من خلال تبديل الولاءات بكل يسر لدى الكثير من البشر، وحيث ترى النفر السوري المسلح قد يميل الى درجة التقوس مع ميلان كفة الميزان العسكري لدى الجهات المتحاربة على أرض الواقع بعيداً عن أي مبدأ أو خُلق أو قِيَم.
على كل حال فرغم حديثنا عن الكذب الأبيض مع عدم فلاحنا فيه، فإننا لا نقدر على إخفاء مخاوفنا الشخصية في سورية المستقبل حيال سيادة التلوُّن وسيطرة المتلونين، إذ من المؤكد بأني كفرد سوري انتقدت النظام طويلاً في عشرات المقالات، عدا عما نكتبه منذ سنوات عن ممارسات قواته وجلاوزته في وسائل التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) وعند بدء الانتقال السياسي الحقيقي في سورية، قد أعود كغيري إلى البلد كما خرجت منه ورأسي غير مطأطأ، لأني أتصور بأني أفدت ولم أضر، كما لم أؤذي أي كائن بشري أو حيواني طوال وجودي فيها وحتى عندما صرت خارجها، نعم انتقدت كثيراً ومازلت، ولكني لم أهدر دم أي فرد من أي طائفة أو ملة، ولا شتمت أو أهنت أبناء ملة بأكملها لأنها أيدت قاتل ما أو كانت من قبيلة الجائر، ولكني مع ذلك أخشى من شيء واحد فقط، ألا وهو أن تُرفع التقارير بي وبمن كان مثلي في المستقبل عند أول يوم من العودة إلى البلد، ولكن ليس مِن قبل مَن بقي وفياً للنظام حتى آخر رمق طبعاً، إنما مِن قِبل مَن كان يشتم سدنة النظام ليل نهار ويريد إبادة صغيرهم وكبيرهم عن بكرة أبيهم، إذ من المتوقع أن تعود تلك الفئات المنافقة إلى ما كانت عليه قبل الثورة، وذلك باعتبار أن من كان من محبكجية بشار الأسد ومن ثم صار بلمح البصر من محبكجية أردوغان، قادر على أن يعود إلى ما كان عليه، أي أن يعود إلى ترديد سيمفونية تمجيد الأسد ويدبك له من جديد كما كان يفعل من قبل، طالما أن الجينات النفاقية جزء من تكوينه الثقافي، وأكبر مثال حي على ذلك، هو الموالي بشدة ومن ثم المعارض بقوة 12 حصان، ثم الموالي من جديد الشيخ "عمر رحمون".
ونكاد نقسم بأن هنالك عشرات الآلاف من النسخ الفوتوكوبية عن المتلون "عمر رحمون" ليس في مناطق سيطرة النظام فحسب، إنما وفي مناطق سيطرة قسد، وربما أكثر منهم بكثير في مناطق نفوذ القوات التركية؛ وكمواطن سوري جل همّه الأمان والحرية والكرامة، فهذه وتلك النماذج البشرية السورية تجعلني أقلّب مراراً وتكراراً عبارات الشاعر التشيلي نيكانور بارا القائل: "أؤمن بعالمٍ آخر، تتحقق فيه كل المُثُل؛ الصداقة، المساواة، الإخاء، باستثناء الحرية، فتلك لا يمكن بلوغها في أي مكان؛ نحن عبيد بالطبيعة".
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!