-
ضوء في آخر النفق
وددت دائماً أن أوثّق تجربتي في برنامجي التلفزيوني الأول، ضوء في آخر النفق، فقد كانت فكرته بسيطة للغاية وتنفيذها في قمة الصعوبة، كنت أبحث عن نساء سوريا المتميزات.. لم يكن التميز بالنسبة لي يعني تفوقهن العلمي، أو شهاداتهن، أو وصولهن لموقع وظيفي ما، بل كان جلّ همي أن أظهر الجانب الخفي من جبروت السوريات اللواتي ينهضن من تحت الرماد، اللواتي يتغلبن على ظروف قاهرة ليجعلنها سبباً في نجاحهن.
أنجزت حوالي 150 حلقة، كل حلقة بمثابة فيلم قصير عن حياة امرأة، كنت أبحث ليل نهار عن نساء، أسأل كل من ألتقيه إن كان يعرف نموذجاً نسوياً مناسباً لبرنامجي، وأوزّع بطاقاتي الاسميّة التي تحتوي على رقم هاتفي وبريدي الإلكتروني على كل من أسأله.
مرةً، في سيارة الأجرة، أزعجتني نظرات سائقها إليّ في المرآة، فرسمت على وجهي عبسة كبيرة، وأشحت بوجهي نحو النافذة، لكن فهمي الخاطئ للرجل لم يطل كثيراً حين بادرني بالسؤال: "أستاذة لسا بدك نسوان؟" فتغيّر عبوسي لابتسامةٍ عريضة، وإذ بالرجل قد أقلني قبل ذلك ويحمل بطاقتي الاسمية منذ ذلك الوقت.
المهم بالقضية، أنّ حجم التعب الذي عانيته كي أنجز ذاك البرنامج، كان غاية بالصعوبة، ولكنها صعوبة مترافقة بالسعادة من نوع خاص، سعادة الإنجاز، وسعادتي بأنّني تعرّفت على نساءٍ رائعات عززن نظرتي للمرأة، وقدراتها الجبارة على صنع المعجزات.
نساءٌ كثيرات انتهين من ذاكرتي بمجرد ما انتهيت من إنجاز حلقاتهن، وأخريات حفرن في قلبي عميقاً، وبعضهن لن أستطيع نسيانهن ما حييت، ومنهن السيدة أم فاضل زينو، و(م. حسن)، وأم سمعان، التي اعتبرها حتى اليوم مثالاً يحتذى لامرأة أمية، عملت في كل شيء يقيها العوز، ويؤمن لأولادها الأيتام سبل إكمال تعليهم، بدءاً من أعمال الحصاد، إلى أعمال البناء، فكانت تحمل (تنكة البيتون) على كتفها كالرجال، وتصعد بها إلى حيث يحتاجها معلم العمار؛ ليصبح أولادها الأربعة: صحفياً، ومهندساً، ومدرساً، ومترجماً.
ومن النماذج المشرقة، على سبيل المثال لا الحصر، السيدة (ل. الحصري)، التي تغلّبت على سرطان الثدي، وحوّلت مرضها لإنجاز، بترخيصها لجمعية خيرية تساعد مريضات السرطان، واستطاعت تأمين سيارة إسعاف مجهزة بجهاز الماموغرام كي تقدم خدمة تصوير الثدي مجاناً للنساء في القرى البعيدة.
مثلها كانت السيدة (و. الزير) التي انتصرت على السرطان رغم فقرها وألمها، لتوثّق تجربتها في كتاب تحكي فيه قصتها، وتعطي الأمل للمريضات بالإصرار والإيجابية رغم كل شيء، وما تزال تحاول طباعته حتى اليوم.
من تجارب النساء اللواتي لا أنساهنّ، السيدة (أم رأفت) التي فقدت زوجها ولها منه ستة أطفال ذكور، كبيرهم في الثانية عشر عاماً، عاشت فقراً مدقعاً، عملت بكل الأعمال اليدوية الممكنة لتربيهم على اللقمة الممزوجة بعرقها والحب، واليوم تفوّقت مع أولادها تعليمياً ومادياً، فكلّهم تقريباً نالوا الشهادة الثانوية وشهادات معاهد الصيدلة والتخدير والرسم الهندسي، والأهم من ذلك استطاعت أن تبني لأولادها بناء كبيراً يجمعهم، وأن تحثّ أبناءها على العمل والنجاح، حتى باتوا اليوم يملكون أكثر من مطعم للأكل السريع في أرجاء دمشق، وتنقل أسرتها من الفقر إلى الثراء بالتعب والصبر والمثابرة.
ناهيك عن النساء اللواتي تغلبن على إعاقاتهن، أمثال الدكتورة (ر. مارديني)، والسيدة المميزة (و. شحود)، والرائعة (ك. الدالاتي)، والأبهى كنّ اللواتي تغلبن على إعاقة أطفالهن، ليصنعن من ذوي الاحتياجات الخاصة، رجالاً مبدعين بدعمهن وتكريس حياتهن لأبنائهن من أمثال السيدة (ر. الأسعد)، و(ن. السنكري) وسواهما.
وثّقت مسيرة (الخياطة) التي أصبحت مجازة جامعية بعد حين، فقد تركت المدرسة بعمر مبكر لا تحمل سوى الابتدائية، لتعود إلى مقاعد الدراسة بعد عشرين سنة من الانقطاع، وتفتتح معهدها التعليمي، ليكون أول معهد من نوعه في منطقتها يقدّم دروس التقوية والتعليم بأسعار زهيدة، ومجاناً للنساء اللواتي حرمن من التعليم لتشجيعهم على مواصلة مسيرتهن، إلى جانب ورشة صغيرة للخياطة كإخلاص منها لمهنتها الأولى، ومثلها السيدة (ع. البرغل) التي عبرت عن حزنها على وفاة ولدها، بغرقها بالدراسة فحصلت على الشهادة الإعدادية، ومن ثم الثانوية، ودخلت كلية التربية -جامعة دمشق، وهي ابنة السبعين عاماً.
وبالطبع، الأكثر تميزاً كانت الصبية (هـ. الفندي) راعية الماعز، التي حملت الكتاب بيد وعصا الرعي بيد، لتصبح معيدة في كلية الحقوق-جامعة دمشق، بكل جدارة، ودون تأخير، ولو لسنة واحدة من سنوات دراستها، الفندي ولدت لأب راعٍ، وأمٍ راعية، وأخوة رعاة، أعلى شهادة في عائلتها، الابتدائية، ومع ذلك تابعت ودرست وحصلت على الشهادة الثانوية بالفرع العلمي (رغم أنّ دراستها كلها أثناء الرعي)، وحصلت على المركز الأول في محافظتها ومجموع يؤهلها لدراسة كلية الصيدلة لكنها فضلت الحقوق فهي تحلم بالعدل.
شاءت الصدفة أن يكون ضمن هؤلاء النسوة الـ150، ثلاث حالات فقط تنتمين طائفياً لمنطقتي، ليهمس في أذني مخرج البرنامج أثناء تصوير الحالة الثالثة: "بتقلك الإدراة حاجة تاخدي دروز"، جرجتني الكلمة في الصميم، نفرت الدمعة من عيني غصباً عن إرادتي، يا إلهي ما هذا التفكير، يشهد الله أنّني اخترت بطلاتي بناء على تجربتهن، وروعتها، بناء على نجاحهن بما قدمن للحياة، يشهد الله أنّني لم أنظر، بل لم يخطر في بالي ولو لوهلة، انتماءاتهن الطائفية، أو المناطقية أو العرقية، ومع هذا لم أسلَم، في حين أنّني صورت عشرات الحلقات في ريف اللاذقية، ومدينة طرطوس، ولم أفكر بطائفة أهل هذه المناطق.
وشهادة حق، أنّ الإدارة لم تتدخل بانتقاء ضيفاتي، عدا هذه الملاحظة الجارحة آنفاً، ورفضوا إحدى الضيفات مرةً أخرى لاضطراري بسؤال الإدارة عنها.. كنت أسافر للمحافظات لأصور السيدات في بيئتهن، فيحكين عن أنفسهن، ويحكي عن تجربتهن من عاصرها معهن، من أهل وأبناء وجيران وأصدقاء، وهذا السفر كان يتطلب موافقة الإدراة، وكنت أجمع الحالات في ذات المنطقة، لأصورهن في نفس الوقت، فكل سيدة تحتاج مني ليوم تصوير كامل.
في إحدى المحافظات، وبعد انتهاء يوم التصويرالأخير، جلسنا، فريق العمل، وعائلة إحدى السيدات وجيرانها نحستي الشاي وأثناء الحديث، اقترحوا لي ابنة منطقتهم السيدة أم صخر، كانت معلمة وزوجها سجين رأي لمدة طويلة، وحدها ربت طفلين، سجن والدهما عندما كان الابن الأكبر بعمر أربع سنوات، والصغير في أحشاء أمه، وحدها ربتهم ليصبحوا رجلين مشهود لهم بالأخلاق، أحدهم يدرس الطب البشري، والآخر أنهى تعليمه بالخارج ويعمل في الخليج، ولأنّ تصوير حلقة جديدة سيتطلب مني تمديد حجز الكاميرا، وتمديد إقامة فريق العمل في الفندق، كان لابد أن أتّصل بإدارة التلفزيون السوري وآخذ الموافقة.
اتصلت أشرح أهمية القصة التي تستوجب التمديد، فسألني المدير: "أين كان الأب؟ قلت له :كان سجيناً لمدة طويلة. قال: بأي جرم؟ قلت: أبداً ليس جرماً بل سجين رأي.. بعد صمت طويل قال لي بحزم: بتحملي فريقك وبتجي نحن التلفزيون السوري ولسنا قناة الجزيرة لنستضيف أسر السجناء السياسيين.. قلت له بسخرية: يعني لو مجرم معلش؟ أعاد علي ما قاله بدايةً: بتحملي الفريق وبترجعوا اليوم".
عدت مكتفية بما صورت، وأتبعت برنامجي بآخر يشبهه أسميته "حكاية أم"، وأدركت تماماً إنّنا فعلاً في سوريا الأسد.
ليفانت - مزن مرشد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!