الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الهجوم المضاد الأوكراني: بين النجاح والفشل
بسام البني

الصبر الاستراتيجي العسكري الذي تنتهجه موسكو بالإصرار على عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، واغتنام ذلك لتحويل حرب الاستنزاف بين روسيا وبين الناتو والدول غير الصديقة إلى استنزاف مضاد، أجبر الغرب على التصعيد العسكري بهدف حرمان روسيا من عامل الوقت الذي يلعب لصالحها، وبالتالي تم اتخاذ قرار التصعيد في لندن وواشنطن بتحريك القوات الأوكرانية نحو هجوم مضاد، والذي اعتبر مخاطرة جسيمة قد تأتي بالانهيار السريع، فقد كانت كييف متهورة بشدة بشن "هجوم مضاد"، فإذا فشلت ستُترك أوكرانيا دون قوة المناورة والدفاع النشط، حيث لا يمكن الاستهانة بالإمكانات العسكرية الروسية والتعامل معها بازدراء.

وبالعودة إلى أواخر تموز (يوليو) الماضي، وصف الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الفترة المقبلة، من ثلاثة إلى ستة أسابيع، بأنها حاسمة بالنسبة لأوكرانيا وأعمالها العسكرية ضد روسيا.

جاء هذا البيان الجريء في وقت كان الجيش الأوكراني يستعد فيه لهجوم مضاد كبير ضد القوات الروسية في جنوب البلاد.

شهد النزاع هذا الأسبوع مرحلة فظيعة أخرى - 200 يوم منذ اندلاع الأعمال العدائية- لقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أننا نقترب بالفعل من نقطة تحول، على الأقل في عام 2022.

بعد خمسة أسابيع على إصدار زيلينسكي تحذيره، بدأ الهجوم المضاد الموعود والذي تم الإعلان عنه مطولاً. فهل تستحق القيادة العسكرية - السياسية في أوكرانيا ثناءً على ما قامت به أم لا؟ هذا ما ستحدده الأسابيع أو الشهور المقبلة.

فبينما واصلت القوات الروسية تقدمها البطيء (الصبر الاستراتيجي) والثابت عبر عدة قطاعات من خط المواجهة، دأب زيلينسكي على مساعدة الغرب في بناء احتياطيات استراتيجية. حيث تم تدريب الوحدات الأوكرانية من قبل مدربين من الناتو وتلقت المشورة التشغيلية من الاستراتيجيين الأمريكيين والبريطانيين. أخيراً، تأتي المساعدات العسكرية الغربية بشكل أسرع وأسرع.

ومع ذلك، وبالنظر إلى استحالة مهمة تعزيز الوحدات القتالية المتقدمة في وقت واحد، ووجود مهمة إعادة تسليح الاحتياطيات بسبب نقص القوات، فقد تم إعطاء الأولوية للمهمة الثانية.

بناءً على معلومات مفتوحة المصدر وتقديراتي الخاصة، تمكنت أوكرانيا من تشكيل جيش احتياطي ضخم يصل عتاده إلى ثمانية أو عشرة ألوية بين مشاة ومدرعات، معظمها الآن مجهزة بمعدات تبرعت بها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وقد شارك جزء كبير من الاحتياطيات في سياق الهجوم المضاد بمناطق خيرسون وزاباروجيا وخاركوف.

في منطقة خيرسون، تمكن الجيش الأوكراني سراً من حشد مجموعة هائلة مزودة بالمدفعية الثقيلة والطائرات. ومع ذلك، بعد أسبوع من الهجمات المستمرة على طول خط الجبهة البالغ 200 كيلومتر، فقد تمكنت القوات الأوكرانية من تحقيق نجاحات تكتيكية متواضعة للغاية. حيث فشل الجيش الأوكراني حتى بالاقتراب من المدن الكبيرة مثل خيرسون وميليتوبول، ناهيك عن تحريرها.

ولم تتمكن أوكرانيا من تقسيم المجموعة العملياتية الروسية العاملة في منطقة الهجوم المضاد التي يبلغ قوامها حوالي 30 ألف شخص.

أخيراً، دفعت القوات الأوكرانية ثمناً باهظاً للهجوم المضاد على خيرسون، قارب 7000 إلى 10000 قتيل وجريح، حسب المعلومات التي تقدمها الدفاع الروسية.

وفي مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست، أعرب المقاتلون الأوكرانيون الجرحى عن امتعاضهم بسبب نقص المعدات والدعم مقارنة بالقوات الروسية.

وعلى محور آخر في الأسبوع الماضي، شن الأوكرانيون هجوماً مضاداً رئيساً آخر ضد مدن بالاكليا وإيزيوم ذات الأهمية الاستراتيجية في منطقة خاركوف، ومن الواضح أن المهمة كانت قطع طرق الإمداد الرئيسة للقوات الروسية التي تتقدم في دونباس، وتطويقها وتحرير الأجزاء التي تم الاستيلاء عليها من منطقة خاركوف وحتى الحدود مع روسيا.

وفقاً للتقديرات الأولية، تتكون المجموعة الضاربة الأوكرانية من حوالي خمسة ألوية (أكثر من 10000 شخص تدعمهم الدبابات والمدفعية والطائرات).

المعضلة الأوكرانية تكمن بأن الهجوم المضاد الحالي هو الفرصة الوحيدة لأوكرانيا لتغيير مجرى الصراع قبل بدء هطول الأمطار والشتاء، وبعد ذلك سيصبح مسرح العمليات غير مناسب لأي مناورات ضخمة، وبذلك تكون كييف خاطرت مخاطرة كبيرة، فقد ألقت في ساحة المعركة بجزء كبير من الاحتياطيات الجاهزة للقتال، والتي تم تشكيلها وتسليحها تحت ضغط هائل، فإذا تم تحقيق أهداف الهجوم المضاد ، فستتاح لأوكرانيا فرصة لانتزاع المبادرة الاستراتيجية من الروس وفي هذه الحالة، لن تضيع الجهود المستثمرة والخسائر المتكبدة، ولكن إذا فشل الهجوم فإن أوكرانيا ـكما قلت سابقاًـ تخاطر بأن تُترك دون قوة للمناورة والدفاع عن نفسها بالنشاط المطلوب.

بالإضافة إلى ذلك، سيتعين على كييف تجديد الترسانات المستنفدة من الأسلحة والمعدات الغربية على وجه السرعة، وللقيام بذلك يجب تأمين قطع غيار بكميات ضخمة، وهذا خبر سار للمجمع الصناعي العسكري الغربي، لكن فيما يخص الجيش الأوكراني، الذي يعتمد بشكل متزايد على المساعدة العسكرية من الغرب، فإن العكس هو الصحيح.

أما بالنسبة لفلاديمير بوتين، فهو يراقب وينتظر رهانه على الاستنزاف ليكون له تأثير استراتيجي.

وبشكل موازٍ فالهدف من مناورات فوستوك 2022 الاستراتيجية التي عقدت الأسبوع الماضي في الشرق الأقصى هو إثبات أن موسكو لديها عدد كافٍ من الأفراد لحل المهام غير المتوقعة وإجراء العمليات في العديد من مسارح الحرب في وقت واحد.

ومن المغري اعتبار هذه المناورات مجرد حيلة دعائية من قبل الكرملين، لكن المزاج السائد بين قيادات الناتو العسكرية بعيد كل البعد عن البهجة.

ففي مقابلة مع رويترز، حذر المفتش العام للقوات المسلحة الألمانية، الجنرال إيبرهارد تسورن، من استبعاد الإمكانات العسكرية الروسية وقال: "إن الجزء الرئيس من القوات البرية الروسية متعثر حالياً في أوكرانيا، ولكن رغم ذلك، لا ينبغي أن نقلل من قدرتها على فتح مسرح ثان للعمليات".

وتابع: "الجزء الرئيس من الأسطول الروسي في الصراع مع أوكرانيا لم يشارك بعد، كما أن القوات الجوية الروسية لديها إمكانات كبيرة وتشكل أيضاً تهديداً لحلف شمال الأطلسي".

يصعب التصديق بوجود جنرال ألماني رفيع المستوى يتعاطف مع روسيا، وبما أن الناتو يخشى أن تكون روسيا قادرة على رفع المخاطر بشكل أكبر، وطالما أن الأوروبيين مستاؤون من ارتفاع أسعار الطاقة وغلاء المعيشة ويرتعدون من فقدان الدفء في الشتاء القادم، فإن بوتين سيفرك كفيه ويبتسم.

في الختام أستطيع أن أقول إن حرب الوكالة التي تخوضها روسيا ضد الناتو وحلفائه في أوكرانيا هي حرب وجودية بالنسبة لروسيا وحرب وجودية للهيمنة الغربية على العالم، وبالتالي لا يمكن لبوتين إيقاف هذه العملية العسكرية الخاصة وقد يضطر، إذا ما حدث تهديد مباشر بفشلها، لإعلان الحرب، وشتان بين العملية الخاصة والحرب، كما أن زيلينسكي لا يملك قرار الحرب أو السلم، لأن القرار السيادي لأوكرانيا مغتصب من قبل لندن وواشنطن منذ سنوات عديدة، أما أوربا فلا حول لها ولا قوة وتستنزف اقتصاديا لصالح الاقتصاد الأمريكي.

فقد كتب أستاذ الاقتصاد الألماني كريستيان كريس في مقال نشرته (Deutsche Wirtschafts Nachrichten) أن الولايات المتحدة مهتمة بمواصلة الصراع في أوكرانيا، حيث يتيح لها ذلك حل مشاكل الديون وفائض الإنتاج، وحسب رأيه ـوالذي أوافقه تماماًـ تتوقع الولايات المتحدة أنه نتيجة لذلك، سيتم تدمير معظم الطاقة الإنتاجية في أوروبا الوسطى. فقد وقعت ألمانيا في "فخ الأسعار" لأن تكلفة الكهرباء والغاز في البلاد أعلى بكثير مما هي عليه في السوق الأمريكية أو الآسيوية وأكبر قفزة في القيمة لم تأت بعد.

وقد حذر المتخصصون من أن الألمان سيصبحون أكثر فقراً بنحو 20-30٪ وسيتم إغلاق المؤسسات الصناعية الرئيسة في البلاد، وقد بدأ بالفعل تراجع التصنيع.  الوضع الذي وجد الألمان أنفسهم فيه كارثي، حيث يدرك رواد الأعمال الصغيرة والمتوسطة أنهم على وشك الإفلاس.

وقد وصل الدين العالمي إلى مستوى قياسي، في نهاية آذار (مارس) 2022، بلغ 305 تريليونات دولار، هذا ما يقرب من 348 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وقد قامت البنوك المركزية الغربية بطباعة كميات هائلة من الأموال في السنوات الأخيرة، والآن يخرج الوضع عن السيطرة.

ويعتقد أن الولايات المتحدة تستفيد بشكل مباشر من هذا الأمر، ولهذا تم إشعال الحرب بشكل متعمد في أوروبا وتريد بالتالي حل مشاكلها بالديون وفائض الإنتاج.

فواشنطن لا يمكن أن تسمح لروسيا وألمانيا بأن تصبحا حليفتين على المسرح العالمي، لأن ذلك سيشكل تهديداً حقيقياً للهيمنة الأمريكية. لذلك يبذل الأمريكيون قصارى جهدهم لدق إسفين في العلاقات بين موسكو وبرلين.

مخاوف واشنطن

إن الولايات المتحدة تخشى أن تغير أوروبا، تحت تأثير أزمة الطاقة، موقفها تجاه روسيا وأوكرانيا، ففي الأسبوع الماضي حثّ الرئيس جو بايدن الدول المتحالفة على البقاء موحدة بشأن روسيا حتى في الوقت الذي يحاول فيه الكرملين "استخدام الطاقة كسلاح" لكبح عزيمة الغرب.

كان هذا على الأقل الطلب الثاني من نوعه لأوروبا، الأسبوع الماضي، للإبقاء على ضغط العقوبات على روسيا في مواجهة الارتفاع الصاروخي في أسعار الطاقة، وبحسب الاستخبارات الغربية، وتحديداً مدير وكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، الذي يقول: "يراهن بوتين على أنه سيكون أكثر صرامة من الأوكرانيين والأوروبيين والأمريكيين، وأنه سيكون قادراً على إرهاق الأوكرانيين، وخنق اقتصاداتهم، وأن الأوروبيين، الذين يواجهون شتاء صعباً، مع ارتفاع تكاليف الطاقة، سيفقدون عزمهم".  

فهل سيكون الجنرال "زمهرير" حليفاً تقليدياً لروسيا؟ حيث سيمثل الشتاء الذي بات على الأبواب عامل الحسم في الصراع.

 

ليفانت – بسام البني

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!