الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
السوريون بين فاعل ومنفعل بالصراع
هوازن خداج


شهد الواقع السوري منذ بداية الحراك وما تخلّله من مفارقات كمّاً واسعاً من المتغيّرات التي ستترك آثارها على إمكانية الاجتماع السوري، فحالة التصدّع والتشظّي الهوياتي (الطائفي والإثني) لم تعد مسألة تفصيلية في الانقسامات والصراعات السورية، وكيفية التعاطي مع تأثيراتها، ولن تكون كذلك في المرحلة القادمة، خصوصاً مع طول المدة ورسوخ حدودها على كافة المستويات، التي أدخلت السوريين في دوّامات مختلفة تحوّلوا فيها إلى فاعلين أو منفعلين بالصراع ليبتعدوا أكثر عن استعادة السلم الأهلي كشرط للاستقرار المستقبلي. السوريون 


متغيّرات التفكير (السوريون كفاعلين)


حالة التشظّي ما عاد ممكناً النظر إليها كمرحلة عابرة يمكن تجاوزها بانتهاء الحرب، فهذه الحرب التي جرى توصيفها كحرب أهلية، بغض النظر عن دقة التوصيف أو عدمه، لم تكن مجرد عامل مساهم في تصاعد مجالات التصدّع والاحتقان الموجود سلفاً كامتداد لما سعت الدول الاستعمارية سابقاً على ترسيخه قبل وخلال تكوين الدولة السورية، وما أضافته ممارسات النظام وتلاعبه بالتنوّع لخدمة استمراره القسري، سابقاً وحالياً، بل حفرت أكثر في بؤر التصدّع وعمّقتها لتؤسّس متغيّراتها في آلية التفكير الجمعي السوري.


لقد أسّست الحرب بقسوتها نمطاً آخر، فالشروخات المجتمعية صارت أكثر سفوراً مع انكسار حالة التعايش السلمي “الوهمي” التي تغنّى بها النظام، مراراً وتكراراً، وأخذت وجهاً مختلفاً في الانتقال من حالة الافتراق البسيطة الممكنة في حدود الاختلافات الطبيعية في مجتمع متنوع، طائفياً وإثنياً، إلى حالة من القطيعة والتمترس خلف حدود الطوائف والإثنيات بتجلّياتها المختلفة؛ فغياب المشتركات من حيّز “المتخيّل الجمعي”، حتى وإن كان “وهماً جامعاً” حول طيف من السوريين على الأقل في المرحلة الآنية من الصراع “لفاعلين” عبر استسهالهم حمل السلاح بوجه بعضهم البعض، وهذا لا يمثّل انعكاساً لواقع تسييس الطوائف، واستخدامهم وكلاء للمتصارعين، بدءاً من النظام وصولاً إلى كافة القوى الدولية والإقليمية الموجودة على الأرض فقط، بل يدلّ على رغبتهم في رسم حدودهم الظاهرة في انقسام المناطق، أو بحدود أدنى على إعلان تمترسهم في خنادقهم الضيقة بوجه “المختلف”، وامتداده من “الفعل” إمكانية إشهار السلاح إلى “الانفعال” في معاداته المبطّنة، كسبب في المحنة أو الخراب، وصولاً إلى “صراع رمزي” صار يعلو شأنه منذ بداية الحرب في ظهور “الرموز” ودلالتها على المفارقة والاختلاف، فللرمز أداء ظاهري ووظيفة خاصة في التعبير عن الهوية الفردية والجمعية.


صراع الرموز (السوريون كمنفعلين)



في الواقع السوري، إذا استثنينا الحجاب على أنواعه واللحية، فتعبير الأفراد عن انتمائهم الطائفي، كان محاولات خجولة أو “محرّمة”، في المجالين السياسي والاجتماعي، نتيجة شمولية النظام، شهد تفجيراً “انفعالياً” صارخاً في إظهار اختلاف الأفراد والأديان والانتماءات، تمظهر كصراع صامت بين الرموز الدينية والأيقونات المعلقة على الأعناق والأيدي والوشوم على الأجساد، والتي تحمل رسالة حاسمة عن المعتقدات الدينية، مثل سيف علي بن أبي طالب “ذو الفقار”، و“الخلعة” الشريطة الخضراء للشيعة والعلوية، ونجمة (الخمسة حدود) والأعلام للموحدين الدروز، والصلبان والسبحات بمغزاها الديني، و“الزبيبة” (للدلالة على مسلم شديد التديّن)، أو العبارات المرافقة لحزب الله “الموت ولا المذلّة”، أو صور الموت القادم في شكل جمجمة أو مسدس وطلقة، أو بدلة عسكرية وغيرها من رموز.


ظاهرة الرموز الدينية بجملتها التي باتت تشكّل الهوية العلنيّة للأفراد، لا يمكن النظر إليها كحالة عابرة ستنتهي بتوقف القتال، ولا يمكن حلّها بقرار سلطوي، أو مؤتمرات سياسية وبعض المصافحات بين “المعارضة والنظام”، أو إلصاقها بأيّ عنصر غريب (جهاديين أو دول)، فمسألة العودة للاتصال بالمقدّس عن طريق الرمز، تمثّل ترجمة لحاجات وأفكار ماثلة في اللاشعور الجمعي وتتعلق بمسألة تجييش الذهن الجمعي وتعبئته بصورة غير مباشرة وتشكل تمسكاً بالانتماء المغلق الطائفي والديني، حتى لو كانت دونما وعي أو قصد، فالرموز الدينية بتعبيرها عن حرية المعتقد في حالة السلم، لها وظيفتها كوقود في نار الصراع ولها تبعاتها الخطيرة، إذ غالباً ما يكون الشباب الضحايا الفعليين لهذه الرموز، ورغم أنّ تقديم الهوية من خلال تلك الرموز لدى الشباب تتعدّد دلالاته، بين إظهار التفرّد والاختلاف أو إظهار التفوّق والسيطرة، إذ يحقّ لهم مالا يحق لسواهم، وقد يعتبره البعض الآخر أنّه لا يقتصر على الجانب الديني أو السيطرة إنما على إظهار الرفض لأوجه الصراع السوري، وهو ما أقدمت عليه الأقليات، كالمسيحيين والدروز، في التعبير عن أنفسهم وسط الفوضى، حملوا رموزهم الدينية للدلالة على انسحابهم من خوض حرب لا يعتبرونها حربهم. السوريون 


إلا أنّها مهما اتّخذت من دلالات انتماء روحي أو هرباً من حرب لا تعنيهم أو سلطة سياسية لا تمثلهم، فإنّها لا تبتعد عن حالة التقوقع والانغلاق، وبالتالي الإحجام عن تقبّل الآخر والخضوع لفكرة السلطة المطلقة الطائفية والمذهبية، وهذا لا يختصّ بطائفة دون أخرى، بل يطال حتى الشباب من الطوائف التي تعتبر نفسها غير خاضعة للمنظومة الروحية الطائفية، كالطائفة الدرزية، وما تشهده من نمو هذه الظاهرة وإبراز أعلامهم في المناسبات المختلفة، مثل: الاحتجاج على النظام في تظاهرة السويداء، وفي تأبين شهدائهم وغيرها، على عكس ما كان سائداً سابقاً.


المقتلة السورية بأبعادها الاجتماعية والسياسية، أنتجت حالة واسعة من الانقلاب في المفاهيم والأفكار والمسلّمات التي شكلت البنية المعرفية لأبناء سوريا، لتجعل التربة السورية مهيّأة لامتصاص كافة أنواع الاستقطاب الطائفي والانغماس فيه، الذي يُعدّ بداية للسير نحو الانقسام والتجزئة بين المواطنين قبل رسم الخرائط على الأرض، لتجعل عودة السلم الأهلي مسعى بعيد الأمد ويحتاج جهداً كبيراً لإعادة هيكلة البنى السورية وتحديد البدائل لحلها أو الخروج منها، وهي لا تقتصر على إسقاط النظام الحاكم إنما بالعمل على عدّة مستويات وعبر وسائل مختلفة، كصياغة عقد اجتماعي بمستوييه، العمودي والأفقي، باعتباره خطوة أولى للحدّ من تشظّي الهويات السورية التي تصاعدت في فترة الحرب، وستستمر ما دام السوريون أنفسهم -كانوا وما يزالون- جزءاً من الصراع وعاملاً فاعلاً في تنميته أو منفعلاً معه.


ما حدث من خلل داخل بنية المجتمع السوري دفعه نحو حلقة مفرغة من إمكانيات لملمة حدود التشظّي وضبطها، ليجعل الحديث عن الأزمات الطائفية والإثنية كنتيجة يمكن تداركها عبر إلغاء الأسباب، هو تبسيط لمشكلة تزداد تجذّراً لتشكّل مستقبلاً عاملاً مانعاً للتأسيس الصائب لعقد اجتماعي لاحق ما لم يجرِ علاج المجتمع السوري الذي وصل حدود التخمة في تبنّي أوجه الصراع. السوريون 


ليفانت – هوازن خداج  








 




كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!