-
الحس الجمالي في الموسيقى الكوردية
تعد الموسيقى مرآة للشعوب ومعبرة عن ثقافتها ووعيها وآلامها وآمالها وتطلعاتها وحضارتها وإنسانيتها، والموسيقى الكوردية غنية ومثيرة بألحانها ومقاماتها الخاصة بها، ومضامينها الغنية والمتنوعة بين الحب والملحمية والطبيعة والعرفانيات والروحانيات، وهي في أجساد سكانها الأكراد دافئة كالدم في عروقهم، تُضخ فيها منذ الولادة بترانيم الأم عند المهد لطفلها، ثم تلازم حياتهم اليومية حتى اللحد، في السراء والضراء والمراثي والأفراح. الموسيقى الكوردية
وتعتبر الموسيقى الكردية تاريخياً فنّاً قديماً ومتجذّراً، وللموسيقيين الكرد دور كبير في الحياة الفنية خلال العصور الإسلامية، وكان أحدهم الموسيقي الشهير وعبقري الأندلس "زرياب الكوردي"، الذي كان له الفضل في نقل تقاليد موسيقى الشرق الأوسط إلى إسبانيا، كما قام بتأسيس الكثير من مقامات موسيقى الشرق، كما أدخل زرياب على فن الغناء والموسيقى في الأندلس تحسينات كثيرة، وأهم هذه التحسينات :
1- جعل أوتار العود خمسة، مع العلم أنّها كانت أربعة أوتار.
2- أدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة من قبل.
3- جعل مضراب العود من ريش النسر بدلاً من الخشب.
4- افتتاح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر.
وقد نقل زرياب من بغداد إلى الأندلس طريقتين في الغناء والموسيقى هما:
1- طريقة الغناء على أصول النوبة.
2- طريقة تطبيق الإيقاع الغنائي مع الإيقاع الشعري.
في حين كان إبراهيم الموصلي وإسحاق الموصلي من أهم الموسيقيين الكرد خلال الفترة العباسية، وقد ألَّفا الكثير من الأعمال في علم الموسيقى وأسرارها، فيما كان وصفي الدين رماوي مؤسس أول مدرسة موسيقية.
وللموسيقى الكردية الشعبية طابعها الخاص، شأنها في ذلك شأن موسيقى بقية الشعوب، وكل من له خبرة بموسيقى شعوب غربي آسيا، يمكّنه تمييز الموسيقى الكردية عن الموسيقى العربية والفارسية والأرمنية والتركية، على أنّ ذلك لا يعني أن ثمة قطيعة بين الموسيقى الكردية وموسيقى الجيران، ففي المناطق التي يتجاور فيها الكرد مع جيرانهم، نجد تمازجاً بين موسيقى أولئك وهؤلاء، وثمة ألحان كردية دخلت موسيقى الشعوب المجاورة للكرد، على أيدي الملحّنين الكرد الذين عاشوا بين تلك الشعوب، ولا سيّما في تركيا وبلاد الشام.
والآلات الموسيقية الكوردية عديدة ومتنوعة، ولكل آلة موسيقية كردية جغرافيتها المناسبة، فلكل من الطبل والزُّرْنا الغلبة في المناسبات المفتوحة، كالأعراس والاحتفالات الجماهيرية، كعيد نوروز؛ إذ يكون الجمهور كثيراً، ومتوزّعاً على مساحة كبيرة، فلا بد من أن يكون الصوت مسموعاً، رغم الهَرْج والمَرْج، وكثرة اللَّغَط وتداخل الأصوات، وهل ثمة آلة تصلح لذلك أكثر من الطبل بدويّه المهيب، والزرنا بأصواته القوية التي تهدّ الأذن هدّاً عن قرب؟ ويأتي الدّفّ والبُلُور والنّاي والمزمار في الدرجة التالية بعد الطبل والزرنا، من حيث قوة الصوت، وهي ملائمة للمناسبات المفتوحة أيضاً، لكن على مساحات أصغر، وبتجمّعات أقل. أما الطنبور والكمنجة والسنتور، فمجالها الغالب هو مجالس الطرب الداخلية في البيوت. الموسيقى الكوردية
وبشكل عام، لا يستلذّ الكردي بالموسيقى على النحو الأفضل إلا في أحضان الطبيعة، حينما يكون على تواصل مباشر مع السماء والغيمة والأفق المفتوح، مع الجبل شامخاً، ومع الوادي متعرّجاً، ومع السهل منبسطاً، مع الشجر والطير والعشب والزهر، مع النبع والغدير والنهر، ومن خلال هذا كله مع الهواء الطلق.
وفي الموسيقى الكردية تتجلّى خصائص الشخصية الكردية، والمزاج الكردي، والحس الجمالي الكردي، إنك تلمح في دقات الطبل الرزانة والقوةَ والمهابة والفخامة، وفي أنغام الزرنا الحدّةَ والصلابة والاندفاع، وفي نقرات الدف الحيوية والتفاعل الحميم، لاحظوا ضارب الدف الكردي كيف يخرج عن وقاره، ويتفاعل بجسده مع نقرات الدف على نحو عجيب، وإنك تلمح في أنغام الناي والمزمار عشقَ الكردي للنسائم وهي تتمازج، وللأزاهير وهي تتبسّم، وللأطيار وهي تتهادى، ولإشراقات الشمس وهي تطلّ من خلف الجبل، وإنك لتلمح في أنغام البُلور إيقاعات الحزن الكبير الضارب في أعماق الكردي، حزن دفين زرعته في لاشعوره الجمعي تراجيديا الفقر والقهر الطويلة، وإنك لتلمح في أنغام الطنبور والكمنجة والسنتور الحس الجمالي الرقيق الذي يرتقي به الكردي على شظف العيش وقسوة البيئة ومرارة رحلة الوجود.
وهناك ملاحظتان عامتان بشأن الموسيقى الكردية:
الملاحظة الأولى: تُسمَع الموسيقى الكردية منفردةً، من غير مصاحبة الغناء، وعندئذ تبرز خصائصها الصوتية والسيكولوجية على نحو أفضل، ويحتاج تذوّقها إلى قدر عالٍ من رهافة الحس الجمالي الموسيقي، وإلى قدرات تأملية متقدمة، لذا يجد هذا النمط رواجاً عند النخب الكردية المثقفة، أكثر من رواجها عند الجماهير الشعبية.
الملاحظة الثانية: الموسيقى، سواء أكانت منفردة أم مصحوبة بالغناء، عميقة الجذور في الميثولوجيا الكردية.
أما عن الرقصات الكوردية، فإنّ الكورد يمارسون الرقص في المناسبات (الأعراس، الحفلات، الأعياد)، وهو أحد المداخل لمعرفة الشخصية الكردية، وللرقص الشعبي الكردي سمات بارزة وهي:
1- الطابع الجماعي: الرقصات الكردية الشعبية جماهيرية الطابع، يشترك فيها أهل القرية، وكذلك أهل الأُوبة (المخيَّم الرعوي)، وهم مدعوّون إلى المشاركة فيها، نفسياً وأدبياً ورسمياً، وخاصة في مناسبات الأعراس. الموسيقى الكوردية
2- الارتباط بالطبيعة: رحاب الطبيعة هي المكان التقليدي للأعراس ولغيرها من المناسبات التي يمارَس فيها الرقص الشعبي الكردي، وليس السبب في ذلك هو فقط مشاركة جمهور كبير في الحفل، وإنما لأنّ الكردي عاشق للطبيعة، إنّه لا يشعر بالراحة النفسية ما لم يتواصل مباشرة مع الطبيعة البكر (السماء، الجبال، الأشجار، المروج، إلخ).
3- الحشمة التي يضفيها اللباس الكردي الشعبي على الرجل والمرأة، فلا يظهر من جسد الرجل والمرأة ما يثير الشهوة، ويدغدغ الأحاسيس الجنسية.
وفي الختام، إنّ الكورد قوم محبّون للموسيقى، والموسيقى جزء لا يتجزأ من وجدان الكوردي، ويعبر من خلالها عن آماله وآلامه ونضالاته وحبه للطبيعة والحياة. الموسيقى الكوردية
ليفانت - الدكتور آلان رمو ليفانت
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!