الوضع المظلم
الثلاثاء ٢١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
نزهة السوريين المرحة في حقل المقهور والمكبوت
عبير نصر

عرّف الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" النكتة بقوله: "لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر.. وهتاف الصامتين.. إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه". وهذا ينطبق، فعلياً، على الشعب السوري، الذي اشتدت أوجاعه إلى حدّ لا يطاق، بعدما طحنته أزمات الجوع والبرد والذلّ، فما كان منه إلا رجم الآلام بقهقهات السخرية، والهروب إلى نسج النكات وإنتاج القصص الطريفة، كآخر متنفسٍ مُتاح.

المؤسف أنّ السخرية السورية ليست سوى موجة مؤقتة للضحك، ويد "قليلة الحيلة" تربت على الهموم، لما تتضمنه من عناصر المفارقة والمفاجأة والغرابة، التي تسبب شعوراً بالاندهاش المقترن بمتعةٍ لحظية على مسرح خراب البلاد الهائل. والأكيد أنّ الأنظمة الاستبدادية، بصفة عامة، تتعامل بمنطقٍ كيدي مع النكتة السياسية، وإن اختلفت بعض التفاصيل والجزئيات التي تفرضها خصوصيات كلّ نظام شمولي، وذلك بسبب إدراك هذه الأنظمة العميق لضعف الواقع الإعلامي الرسمي وتخلفه، واستناده إلى الرواية الكاذبة، بينما تشكل السخرية السياسية الوسيلة الإعلامية الشعبية الأكثر رواجاً وقبولاً، والتي تصوّر سقطات الأداء السياسي بمنظور ساخرٍ، متحرّر ومتجرّد عن الإملاء والممالأة والتبعية والتوجيه. بطبيعة الحال لا يوجد تعارض بين النكتة السياسية والجدية في تفاصيل الحياة السورية، حيث تقوم بتحليلٍ عميق لظاهرة أو وضع سياسي سلبي، ولا زالت تعمل جاهدة على إثارة وعي السوريين للوصول للهدف المنشود، لعلّ وعسى، بينما يشكل الألم والقهر والعنف، والتفاوت الطبقي الفاحش، ومصادرة الحريات، أقوى الدوافع وراء إبداع النكت السياسية وترويجها، لتغدو سلاحاً فتاكاً تواجه به الأغلبية المستضعفة الأقلية القوية المستعلية.

ومما يزيد خطورة السخرية السياسية قدرتها "الخارقة" على اختراق الفئات الشعبية، وتعرية الواقع الموبوء أمامها، وكشف وجهه القبيح وروحه الشريرة، فتغدو مجهراً فاضحاً للسوء مبيناً حقيقة الأمور، ومواطن الانحراف والخلل. ومن الطبيعي أن يزداد حضور النكتة بقدر غياب حرية التعبير، التي تزيد درجة السخرية وقتامتها، وقد تجلّى ذلك خلال سنوات الجمر والرصاص التي تشكلت وفقها ملحمة "التغريبة السورية". لن نبتعد كثيراً، وسنأخذ على سبيل الذكر آخر بدعات النظام السوري الذي ما زال يسخّف الألم السوري بصفاقةٍ لا مثيل لها. حيث نشرت صفحات محلية على "فيس بوك" دعوة صادرة عن وزارة الثقافة، تدعو أهالي السويداء لـ "حضور وقفة تضامنية مع أهلنا الصامدين في الجولان بمناسبة الذكرى الأربعين على الإضراب الكبير، على مسرح قصر الثقافة بالسويداء". جاءت الدعوة بالتزامن مع الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ نحو أسبوع في السويداء، والتي تمثلت بمظاهرات، وقطع للطرقات، وهتافات مناهضة لنظام الأسد، احتجاجاً على سياسة حكومته الفاسدة ومليشياته الإرهابية.

على المقلب الآخر، أثارت هذه الدعوة حفيظة الأهالي وغضبهم لما اعتبروه سخرية، ومحاولات واضحة لحرف أنظارهم عن مطالبهم الشعبية، لا سيما أنّ أهالي الجولان المحتل، أنفسهم، يعيشون بأفضل الظروف المعيشية تحت حكم إسرائيل مقارنة بالسوريين بمناطق سيطرة الأسد. وكتب أحد أبناء السويداء تعليقاً على الدعوة المستفزة: "تفضلوا على هالمسخرة!.. وقفة تضامنية في (السويداء!) مع أهلنا الصامدين في (الجولان!).. يعني المشحّر والجوعان والبردان والقاعد بالعتمة مع إنترنت متل الزفت، واللي دخلو الفردي الشهري بيتراوح بين 20 و25 دولاا، بدّو يطلع يتضامن مع خيّو في الجولان اللي شبعان ودفيان، وما بتقطع عنو إسرائيل الكهربا خمس ثواني باليوم، وعندو إنترنت عالمي بدون مخابرات سورية تحصي عليه حتى أنفاسو وإعجاباتو، واللي دخلو الفردي الشهري بيتراوح بين 2500 و3500 دولار".. ليضيف: "إذا تحررت الجولان على أيديكم الملوثة بالدم والفساد رح تصير متل السويداء اليوم، ورح يصيرو أهلها يشحذوا المعونات من دروز إسرائيل".

من المؤكد أنّ السخرية السياسية تذبح دون أن تجرح، لذا يخشى السياسيون السوريون وأصحاب القرار النكتةَ ويحاولون تفاديها، وعلى النقيض من ذلك تشكل النكتة السورية بكاء ونحيباً مغلفاً بالضحك على واقعٍ نصبو إليه، ولا قدرة لنا على تحقيقه فنعيد إنتاجه في صورةٍ هزلية وتعبيرٍ كاريكاتوري، وبذلك يتمّ تحويل العجز إلى تعالٍ وقوة في مواجهةِ القهر والعنف المسلّط على الرقاب. وفي واقع الأمر كان قانون الجرائم الإلكترونية، ودون أدنى شك، أشبه بعين حاقدة لرصد نقد السوريين الساخر، وبالتالي استباق تحركاتهم من خلال اتخاذ إجراءات احترازية تفسد من خلالها مشاريع الجماهير الناقمة على تردّي الأوضاع. بينما لم يتوانَ سوريّو الداخل عن "التنكيت" على كلّ صغيرة وكبيرة في البلاد، كمثل مؤتمرات عودة اللاجئين التي عقدت في دمشق برعاية روسية، حيث كتبت إحداهنّ تسأل المؤتمرين: "من كل عقلكم بتفكروا ممكن يرجع اللاجئ حتى يوقف على دور الخبز ويستنى رسالة منكم ليستلم جرّة الغاز؟.. الأفضل توفروا المال الذي صرف على المؤتمر وحقّ الأكل والشرب أمامكم والطقومة.. وتعطوهم للشعب المعتر الفقير". أيضاً لم يفتهم السخرية على الراتب الشهري معبرين عن تهكمهم بعبارة "لا يصلح للاستخدام سوى مرة واحدة!". كذلك السخرية من الضريبة المفروضة على مربّي الكلاب التي تفوق المبلغ الذي يعطيه النظام للموالي عندما يُرزق بطفل، ليكتب أحدهم: "الكلب أغلى من الولد يا خديجة".  وهل يفتهم أيضاً السخرية من الاعتداءات الإسرائيلية التي عادة ما تُبرّر من قبل الإعلام السوري الرسمي بأنّ مصدرها ماسٌّ كهربائي أو تفجيرُ عبوات ناسفة...إلخ.

وهكذا يتنافس السوريون، ومنذ سنوات، في التعليقات أو الصور التي تسخر من وضعهم المعيشي المتردي، والتي ازدادت وتيرتها شتاء هذا العام، الذي يعد الأكثر صقيعاً منذ سنوات طويلة، فتبادل كثيرٌ منهم رسماً لخاتم ذهبي استبدلت الماسة فوقه بأسطوانة غاز، أو التقطوا لأنفسهم صور "سيلفي" طريفة وخلفهم أسطوانات الغاز. وعبرت واحدة من الصور عن أجمل تجليات السخرية ظهرت فيها أسطوانة غاز مرفقة بأزرار رقمية كتب عليها "أدخل الرقم السري"، وطفل يطلب من أبيه إعطاءه "الباسوورد" ليغلي كأس شاي... إلخ.

في الحقيقة السخرية السياسية، بمفهومها العام، ليست نظرية ولا علماً إجرائياً بقواعد ناظمة، هي حياة موازية، نسق عيش يناور ويداور ويحتكر اللغة ويتحكم بالمشهد، مدعياً أنه الأقوى والأكثر حضوراً ومعرفة ونفاذاً. وبالتأكيد السوريون هم شعب الفكاهة النابعة من ثنايا المعاناة والقهر، ولسخريتهم اعتبارٌ خاص، بوصفها افتراقاً عن الرطانة والسماجة البعثيتين. إذ بسبب الحكم المديد للبعث لم يُعرف السوري كصاحب نكتة، وتغلّبت عليه صورة السلطة وشعاراتها وإنشائها المملّ عن القضايا الكبرى. ولا شك ساهم التشدّد المستمر والمضطرد في منع النكتة أو سحقها، بينما صقلت سنونُ القهر حسَّ السخرية لدى عامة الناس، بمن فيهم أبسط البسطاء وأقلهم تعليماً أو ثقافة أو أدلجة.

على صعيد آخر وخلافاً لوظيفتها التحسيسية التحريضية على التمسك بقيم الحرية وامتلاك الإرادة، أضحت النكتة صمامَ أمان للأنظمة السياسية المستبدّة من خلال تحويلها إلى غرفة عازلة يُفرغ فيها المواطن شحنات غضبه المتراكمة وضغوطه وآلامه ومكبوتاته. مع هذا يمكن الجزم بأنّ السخرية السورية ليست إلا فنّ التحايل على المفارقات المؤلمة، واللعب مع الوجع، ولا شك ستبقى سلاح المسحوقين منهم، ومهما اتخذت من أشكال اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، تبقى في جوهرها لغة سياسية سلمية ومؤثرة تحرّض الابتسامة المبلّلة بالدموع.

ليفانت - عبير نصر
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!