الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
مواسم النمل السورية
عبير نصر

من المبكر، والمبكر جداً، الحكم على مآلات الحرب الروسية الأوكرانية، لكن ثمّة ملامح عامة تجعل مراقبين يتوقعون ولادة نظام جديد من رحم هذه الحرب الطارئة، لا يمكن التنبؤ بصورته النهائية حتى الآن.

في المقابل، من المؤكد، بل المؤكد جداً أثر هذه الحرب القاتل على سوريا، والتي أرخت بظلالها القاتمة على اقتصاد البلاد المتهاوي أصلاً، وشكلت صفعة جديدة للسوريين الذين يرزحون تحت وطأة أزمة مالية ومعيشية خانقة، بحكم أنّ سوريا كانت تعد أكبر شريك اقتصادي لأوكرانيا في العالم العربي حتى بدايات 2011، وعليه من المؤكد أيضاً أن التداعيات ستصل إلى قطاعات النقل وأسواق المال والإمداد الدولي، إلى جانب أسواق المواد الأولية والسلع الاستراتيجية. بدلالة أنه وخلال الأيام القليلة التالية للعملية العسكرية الروسية، شهدت أسعار معظم السلع والخدمات على المستوى العالمي ارتفاعات خلّبية، ما يعني أنَّ المبادلات التجارية السورية مع جميع دول العالم ستتأثر مستقبلاً، لجهة ارتفاع تكاليف الاستيراد والتصدير.

عطفاً على ما سبق، أقرّت حكومة النظام السوري، وفي خطوةٍ جائرة جديدة لمحاصرة الشعب السوري البائس، "اتخاذ ما يلزم لإدارة المخازين المتوافرة من القمح والسكر والزيت والأرز، بالإضافة للبطاطا، والتدقيق في مستويات توزيع هذه المواد وترشيدها لضمان استدامة توافرها". في وقتٍ تذرّعت فيه الحكومة نفسها وخلال الترويج لسحب الدعم عن 600 ألف أسرة سورية، بتوجيه الدعم لمستحقيه وزيادة الأجور ورفع سقف الرواتب.. بطبيعة الحال إن طول أمد الحرب في أوكرانيا، سيؤثر على صلابة النظام السوري، نظراً لاعتماده على الدعم الاقتصادي الذي يقدّمه الحلفاء أوقات الأزمات المستعصية، وهو ما يجعل تأثره بالمتغيرات الخارجية سريعاً، بل كبيراً ومتوقعاً.

واليوم وقد أضحت موسكو ضمن إطار عزلة دولية وعقوبات ضاربة، يبدو أنها ستمتد مهما كانت نتيجة الحرب، فإن النظام السوري بات على أعتاب أزمة اقتصادية أشد وطأةً مما كانت عليه، في مقدّمتها القمح والمشتقات النفطية، حيث يضطر إلى استيراد 1.5 مليون طنّ من القمح سنوياً من القرم وبيلاروسيا وروسيا. وفي مجال المشتقات النفطية، ففي أوائل شباط 2021، وقّع النظام السوري عقوداً مع روسيا لتوريد البنزين والمازوت، بموجبها تزوّد وخلال فترة قصيرة بـ 180 ألف طن مازوت، بمعدّل 30 ألف طن يومياً. ومع ذلك لم تغطِّ هذه الكمية سوى 35% من حاجة سوريا، مع عجزٍ بلغ 429 ألف طن، حسب ما قال وزير نفط النظام السوري أمام برلمان بلاده. العجيب، وبالتساوق مع ما سبق، أنّ وزير الطاقة والمياه اللبناني أكد حصول بلاده على كميات من احتياجاتها من الغاز من سوريا، رغم أزمة المحروقات الخانقة التي يعاني منها الموالون، كما أكد أن بلاده تقوم بعملية تبادل مع حكومة النظام السوري، تحصل بموجبها على الغاز من حقولٍ موجودة في حمص، دون أن يكشف المقابل الذي تحصل عليه.

يزيد تداعيات الحرب الأوكرانية بلّة أن سياسة التفقير والتجويع، خلعت تسميتها الرادعة، لتنتشر ثقافة التعاطف مع الفساد أو القبول بالأمر الواقع، ما أدى لتشكيل كتلة فساد صلبة "أفرادها في موقع اللامساءلة". لذا يسعنا القول باطمئنان: "عش رجباً ترى عجباً". لكن حتّى هذه المقولة الشهيرة لم تعد كافية لوصف حالة المأساة التي يعيشها سوريو الداخل، في ظلّ قرارات وتصريحات، من قبل بشار الأسد وحكومته فاقدة الصلاحية، وأقل ما يمكن القول عنها إنها هزلية أو جنونية، لتصبح المقولة الصحيحة كالتالي: "عِش في مناطق الأسد ترَ العجب إلى الأبد". وآخر تلك التصريحات العجيبة تفيد بأن اقتناء السيارات، كما شراء مادة البندورة في غير موسمها، أمر متاح للطبقة الاستثنائية "المخملية"، وليس مخصصاً لعامة الشعب، أو ما بات يعرف بـ"المواطن العادي ذي الدخل المحدود".

وبالنزول إلى مستوى أقل، نقرأ ونسمع تصريحات أكثر "هضامة" كتصريح وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام السوري، عمرو سالم، الذي أكد أنّ "روسيا أرسلت وفداً إلى سوريا للاستفادة من تجربة البطاقة الذكية!".  مضيفاً بثقة مطلقة أنّ "هناك أزمة أسعار في أوروبا عجيبة، مثل أزمة الأسعار في سوريا وأكثر!".. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، و60% منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي، وذلك خلال تقرير لأمينها العام، أنطونيو غوتيريش، مما يعكس إصرار نظام الأسد على تجويع السوريين المتبقّين بمناطق سيطرته، وحصرهم في خيارات الموت البطيء، أو دفعهم للهجرة بعد أن يبيعوا أملاكهم وذاكرتهم وأحلامهم في وطن كريم، استنفاداً لآخر بريق أمل لديهم. المفارقة جليّة في (سوريا الأسد): "سوريون يهربون وبين يديهم تركة ثقيلة من القهر والفقر، بينما يهرب المدعو "أبو علي خضر" وبيده ثلاثة مليارات دولار". والأخير الذي بدأ كبائع فروج ثم تحول إلى أحد أباطرة الحرب الجديدة، حظي بتأثير ونفوذ أمني كبيرين، نظراً لارتباطه بأسماء الأسد، واستطاع أن يجمع ثروة طائلة من خلال فرض إتاوات بالملايين على التجار، وتحصيل الرسوم على الحواجز والمعابر الداخلية بين مناطق النظام والمعارضة ولبنان.

هل تذكرون ذلك الرجل الدمشقيّ المسنّ الذي خرج مؤخراً في تسجيل مصوّر على مواقع التواصل الاجتماعي من قلب دمشق، يشرح حاله وحال الكثيرين من أمثاله، الذين لا يقدرون على شراء الطعام نتيجة الغلاء الفاحش والفساد المستشري؟ قال الرجل بدموع الجوع والذلّ: "والله مو باستطاعتي أطبخ، الخضار بكل أنواعها غالية، التجار عم تولّع بالأسعار، بدل ما ترحم الناس بشهر رمضان". تأتي هذه الصرخة الدامية وسط مخاوف من مجاعة عامة مقبلة، في وقت تقابل فيه حكومة الأسد تلك الأزمات بقرارات تعسفية وتصريحات عبثية، تزيد معاناة الناس بمراسيم وقوانين، غايتها تكميم الأفواه، وملاحقة المنتقدين، وغضّ الطرف عن كبار الفاسدين من مسؤوليها والمحسوبين عليها.. إلى الآن، يبدو تأثّر سوريا اقتصادياً بالحرب الأوكرانية "قدراً" لا مفر منه، لكن التحجج الحكومي بها وإن كان محقاً لدرجة معينة، ما هو إلا شماعة جديدة لتعليق الفشل الاقتصادي الكارثي.

وتبقى الحرب السورية الحقيقية محصورة في المشهد التالي: (أن تعيش عائلة سورية على خمسين ألف ليرة سورية، في بلد الثروات الهائلة المتاحة.. وللغرباء والفاسدين مباحة).. نعم لا شيء يعادل مجرّد تخيّل هذه الحرب اليومية العبثية من أجل البقاء. وفي الحقيقة لا يتوقف الأمر هنا، فبعد التفقير الذي تلا القتل والتهجير، رأينا تأجير وبيع مقدرات وثروات السوريين، ومن ثم الانتقال إلى تهديم القيم الأخلاقية بالمجتمع، فبات الفساد موضع تفاخر، والمخدرات سلعة تباع بالأسواق، لتستمر الجرائم التي وصلت حدّ سرقة الأعضاء البشرية للمعتقلين، بعد إجراء جراحات لهم، وإعلان وفاتهم بسكتات قلبية، وإلزام الأهالي على التوقيع على ذلك.. وعليه يشبه الخلاص السوري ما يُعرف بـ"مواسم النمل". المواسم التي لا يحين موعدها أبداً. الوعد الذي يطلق في الهواء مجاناً بلا تنفيذ.

وهكذا فحياة السوريين محكومة بسياسة موسم النمل. ماء السوريين وكهرباؤهم. مازوت السوريين وغازهم. شاي السوريين وقهوتهم. تعليم السوريين وطبابتهم. سندويشة الفلافل والرغيف ذو الجودة السيئة. بيت حزام الفقر وكوخ القهر. أحلام أطفال بلاد الجحيم والخيام.. ونجاة ذلك الإنسان السوري المطحون. 

ليفانت - عبير نصر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!