الوضع المظلم
الجمعة ٢٩ / مارس / ٢٠٢٤
Logo
مهندسو الألم السوريّ
عبير نصر


شيّعتْ دمشق، مؤخراً، وعن عمر يناهز 79 عاماً، وزيرَ الخارجية ونائبَ رئيس الحكومة، وليد المعلّم، الذي يُعدّ أبرز أعمدةِ الدبلوماسيةِ خلال الأزمةِ السورية، وأحد أهمّ وجوهِ القيادة في البلاد منذ عام 2006 عندما غدا وزيراً للخارجية خلفاً لفاروق الشرع، وهو الوجه الذي أطلّتْ به سوريا على العالم في المحافل الدولية.


عُرف بمواقفهِ الساخرة من الغرب الذي فرضَ عقوبات على سوريا، وعليه شخصياً، معتبراً أنّ الولايات المتحدة هي اللاعبُ الرئيس ضد سوريا وأنّ الأطرافَ الأخرى مجرّد أدوات، وأكد حينها أنّ الأزمةَ بدأت بمطالب مشروعة تعاملتْ معها الحكومةُ، ثم قامتْ عناصرُ أجنبيةٌ باختطافِ الأجندةِ السلمية، واشتهرَ (المعلم) بخطاباتهِ الطويلة وتعليقاتهِ الساخرة، ولعلّ أشهرها مقولة (سننسى أنّ أوروبا على الخارطة) تعليقاً على العقوباتِ الأولى التي فرضها الاتحادُ الأوروبي على أبرز مسؤولِي الحكومةِ السورية، لتثير جدلاً كبيراً وقتها بين محتفٍ يشدّ على يدِ الحكومةِ السورية ومواقفها الصامدة، وبين متهكّمٍ يرى فيها دليلاً على تخبّطِ النظامِ وإفلاسه السياسي.


وكان (المعلّم) قد التحقَ بوزارةِ الخارجية السورية عام 1964، بعد سنةٍ على تخرّجه من جامعةِ القاهرة، بشهادة بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية، وتنقّل بين مهامّ دبلوماسيةٍ عدّة خارج البلاد، قبل تعيينه سفيراً لدى واشنطن بين عامَي 1990 و1999، واحتفظ بمنصبه رغم تغيّر الحكوماتِ والوزراء، كما احتفظ بنبرتهِ الهادئة وبرودةِ أعصابه حتّى في أصعب مراحلِ الحرب، ليشدّدَ في مناسباتٍ مختلفة على أنّ منصبَ الرئيس خطٌّ أحمر وأمرٌ لا يقرره سوى الشعب السوري، كما رفضَ الاتهاماتِ الدوليةَ بشأنِ استخدامِ النظام السوريّ أسلحة كيميائية، مبرراً أنّه لا يمكنُ لدولةٍ في العالم أن تستخدمَ أسلحةَ دمارٍ شامل ضد شعبها، في الوقت الذي كان فيه من الأوائل الذين أطلقوا على المجموعاتِ المسلّحة في سوريا وصفَ الإرهابيين، وكان من أشدّ منتقدي القوى الكردية التي تعاملتْ مع واشنطن، وعُرف بسرعةِ البديهة في الردّ على أيّ أسئلة تُطرح عليه، وبدبلوماسيته وانفتاحه حتى ضمن وزارته، وكان آخر ظهور له في المؤتمر الدولي حولَ عودةِ اللاجئين السوريين، حيث بدا عليه المرضُ الشديد وكان يستعينُ بأشخاصٍ لمساعدته في الوقوفِ والتنقّل.


وشهدَ الدبلوماسي المخضرم تحوّلَ بلاده بدرجةٍ أكبر نحو إيران وروسيا، ما عزّز حكمَ النظام السوريّ وسمحَ له باستعادةِ معظم الأراضي التي انتزعتها المجموعاتُ المسلّحة خلال الحرب، وكان الصديقَ الوفيّ والشريكَ الموثوق لروسيا، ليصفه نائبُ وزير الخارجية الروسية، ميخائيل بوغدانوف بقوله: (كان شديدَ الذكاء، ويتّسم بحسّ الفكاهة، ولديه معرفة عميقة في السياسةِ الدولية والوقائع في الشرق الأوسط)، بالمقابل قدّم وزيرُ الخارجية الإيراني، محمّد جواد ظريف، تعازيه بوفاة نظيره السوريّ، مؤكداً أنّ الأخيرَ قام بدورٍ مهمّ في الدفاعِ عن مصالح بلاده الوطنية وأمنها، ويُذكر أنّ للمعلّم أربعة مؤلفات هي: (فلسطين والسلام المسلّح 1970)، و(سوريا في مرحلة الانتداب من عام 1917 حتى عام 1948)، بالإضافة إلى (سوريا من الاستقلال إلى الوحدة من عام 1948 حتى عام 1958)، و(العالم والشرق الأوسط في المنظور الأميركي).


وبعد الفراغ الكبير الذي خلّفه الدبلوماسي الراحل، تداولتِ الأوساطُ عدّة أسماءٍ لخلافةِ الأخير، وفي مقدمتهم (فيصل المقداد) الذي شغلَ منصبَ نائب الوزير منذ عام 2006 ، ومن أكثر الأمور التي عزّزت حظوظَه هو قربه من (المعلم) طيلةَ السنوات الماضية، إلى جانبِ رضا روسيا عن أدائه بشكلٍ عام، أما المرشّح الثاني فهو سفير سوريا لدى الأمم المتحدة (بشار الجعفري)، الذي يملك تاريخاً طويلاً في العملِ الدبلوماسي، إلى جانب تولّيه العديد من المناصب في وزارةِ الخارجية والسفاراتِ في الخارج، وبحسب محلّلين، فإنّ الاختيارَ لن يقع عليه نظراً لقربه من إيران أكثر من روسيا.


أما المرشّح الثالث، فهو (أيمن سوسان)، الذي باتَ في الآونة الأخيرة الوجهَ الإعلاميّ البارز لوزارةِ الخارجية، وتكرّر ظهورُه على وسائل الإعلام العالمية، على الرّغم من أنه ليس المتحدّث الرسمي باسم الوزارة في ظلّ غياب (وليد المعلم) بذريعةِ المرض، وقبل تعيينه عام 2014 معاوناً لوزير الخارجية، شغلَ (سوسان) منصبَ سفير سوريا لدى الاتحاد الأوروبي وبلجيكا، ولا تتوفر أيّ معلومات شخصية أو مهنية عنه قبل ذلك، الأمرُ الذي دفع البعضَ على وصفهِ بالدبلوماسيّ الغامض، أما المستشارة الخاصة للنظامِ السوري، (بثينة شعبان)، فتُعتبرُ مرشحةٌ بدرجةٍ أقل لخلافة المعلم، نظراً لضآلةِ خبرتها في الشؤونِ الخارجيةِ أمام الثلاثة الآخرين، فضلاً عن قربها من إيران أكثر من روسيا.


ويُذكر أنّ الرئيسَ السوري قد عيّن الإعلاميةَ السابقة (لونا الشبل)، مستشارةً إعلامية خاصة، دون أنْ يتبيّنَ مصيرُ (شعبان) التي تشغلُ المنصبَ نفسه، كما تردد ضمنَ قائمةِ الأسماء المرشّحة لخلافةِ وزير الخارجية الراحل، اسمُ سفير سوريا في الصين، (عماد مصطفى)، ويُعرف عنه بأنّه (عرّاب الاتفاقيات الصينية السوريّة) والذي وعدَ الشركات الصينية، منتصف العام 2017، بأنّ لهم الأولوية في فرصِ الاستثمارِ، وإعادةِ الإعمارِ عقب انتهاء الحرب، ولم يكن اسم (مصطفى) معروفاً في الأوساط السياسية قبل تعيينه قائماً بالأعمالِ في السفارةِ السورية بواشنطن عام 2004، ليُعيّن سفيراً بعد ذلك حتى العام 2011.


ورغم ظهورِ المهندسين المنتصرين الذين سيعيدون ترتيبَ الألمِ السوري أمام العالم، وسط سلسلةٍ من التكهنات أصابتْ في معظمها، بعدما أصدر الرئيس السوري ثلاثة مراسيم، تقضي بتسميةِ (فيصل المقداد) وزيراً للخارجية والمغتربين، و(بشار الجعفري) نائباً له، ونقلِ السفير (بسام الصباغ) إلى الوفدِ الدائم في نيويورك، واعتماده مندوباً دائماً لسوريا لدى الأمم المتحدة، رغم هذا يبقى واقعُ اليأسِ مسيطراً على روحِ السوريين الذين فقدوا الأملَ بظهورِ رجلٍ وطنيّ ينقذ هذه البلاد المنهكة، رجلٍ من طينةِ الزعيم الوطنيّ الكبير (فارس الخوري)، وهو المسيحيّ الذي حاربَ محاولاتِ فرنسا تبريرَ إبقاء استعمارها لسورية، بادعائها أنّ المسيحيين يطلبون حمايتها، فذهبَ إلى المسجدِ الأموي واعتلى المنبر قائلاً: (إنّ الفرنسيين يقولون إنّ المسيحيين يطلبون الحماية منها، أنا من هنا أعلنها، أنا أطلبُ الحمايةَ من شعبي).


واليوم، ولا يختلفُ اثنان على هذه الحقيقةِ الموجعة، تشهدُ سوريا أزمةَ غيابٍ أو تغييبٍ للقادة الحقيقيين، ما أدّى إلى سقوطِ الانتماء الوطني ونسفِ اللوحةِ الفسيفسائيةِ الوهمية بشكلٍ كامل، وحتّى اللحظة لم يستطع الألمُ الذي هزمَ السوريين، كلّ السوريين، أن يوحّدَ الصفّ الشعبي لمواجهةِ الحرب السورية، أخلاقياً وإنسانياً وفكرياً، والدليلُ على ذلك رحيلُ وزير الخارجية الذي كشفَ، مجدداً، حالةَ الاستقطابِ التي تحكمُ علاقةَ السوريين ببعضهم البعض.


وكأنّ شيئاً لم يتغيرْ منذ عشر سنوات، وما بين الفئة الحزينة التي وصفتْ الوزيرَ الراحل بالدبلوماسي العريق الذي اشتهر بمواقفهِ الوطنيةِ المشرّفة في مختلفِ ساحاتِ العملِ السياسي والدبلوماسي، وبين عادةِ اللعنِ واستعمالِ ألفاظٍ مشبعةٍ بالتطرّف والغلوّ من قبل المعارضين، الذين وصفوا (المعلم) بـرجلِ الأسد وبوقِ النظام، لسعيهِ المستمرِ للدفاعِ عنه مقابل تشويهِ الثورةِ وقمعِ نشطائها، برّر البعضُ أنّ الضحيةّ لا تُلام على طريقةِ تفكيرها، وبما تستعمله من ألفاظ، بل النظام هو من يُلام على تراجعِ المجتمع وتقسيمه شرّ تقسيم، بينما دعا فريقٌ آخر من السوريين إلى احترامِ حرمةِ الموت، وعدمِ الانجرارِ وراء ثقافةِ التشفّي، ربما في محاولةٍ يائسةٍ لتطييبِ الجرحِ السوريّ الغائر، الغائر منذ عقودٍ طويلةٍ، طويلة.



ليفانت : عبير نصر








 




النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!