الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
مكان مقدس
سالي علي

طُلب مني أن أخلع حذائي قُبيل دخولي ذاك المكان ذو قبةٍ بلونٍ أخضر وأشجار تحيط المنبر، أصوات الناس تطفو سفح المكان ، رائحة البرغل مع الحُمص تفوح والجميع يأكل منه ، لا أحد يجوع هناك الجميع يشبع ، غالبية البشر تجدهم في عجلة من أمرهم سواء بتحضير الطعام أو بسلخ اللحوم أو بتسخين الأباريق أو جلب غصون الشجر لإشعال الموقد الحجري.

 أطفال تلعب و تتفاوت الخطوات بينهم ,الجميع ضمن ساحة لعب واحدة كأنهم فريق ، هنالك الذي يدخل للصلاة وهنالك الذي يبتسم للمارين، هناك من يبيعُ حلوى الربع أي ذات القيمة المادية الرخيصة كونها إنتاج محلي ، وهناك من يُمسك مقبضاً ممتلئ بالبخور وهو نوع من الحجر المقدس ذو رائحة ذكية عند إشعاله تفوح وتملي المكان فيصلّي الجميع ويتمتمون ببضع كلمات غير مفهومة لدي، كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها لمكان ديني مقدس يخص عائلتي التي انتمي إليها و هي من سلالة العلويون أي من أعلنوا بأنهم يميلون لعلي بن أبي طالب حباً وأيماناً بأنه ولي عهد الرسول الكريم

تجربتي الأولى للتقسيم دينياُ:

مازلت أذكر اليوم الأول لي في حصة الديانة و صدمتي حينَ تمّ تقسيمنا

 لشعبتين منفصلتين ، شعبة مسيحية الديانة و كونهم أقلية في العدد فهم ينتقلون إلى صفٍ فارغ مجاور، أما أنا فأبقى في الصف الأساسي مع رفاقي في الدين الإسلامي كوننا الأكثرية بالعدد، لكنّي في المرة الأولى لم أفقه سبب القِسمة, فلحقتُ بصديقتي المسيحية كونها جليستي في المقعد والأقرب لقلبي، انتبهت حينها موجهة المدرسة لحضوري في المكان الخاطئ, على حد تعبيرها وكونها على معرفة من ملفي الخاص في المدرسة, أين أسكن وماهي كنيتي و موطن أصل قرية والديي، فنبّهت على مُدرّسة الديانة المسيحية بأني لا انتمي إليهم و يجب عودتي إلى جانب رفاقي الصحيحين..

لم أفهم ما حصل حينها و لم أكن أفقه حتى ما معنى الدين أو ما المقصود بالحديث الشريف و آيات القرآن الكريم، أذكر أنني فضلتُ دائماً وأحببتُ الحديث النبوي كونه أقصر وأقل حروفاً وأخذ تعقيداً ولست مجبرة على نطقه تجويدياً مشكلةً مخارج حروفي كوني فتاة بسيطة اتلعثم للحين حين أتكلم وحين أضحك ,لقد كان الحديث الشريف أسهل في الحفظ ,حين يطلبون مذاكرتي له سأضمن حصولي على علامات جيدة.

مواجهتي الأولى مع عائلتي الحاكمة:

 عدت للمنزل على عجلة من أمري بذلك اليوم، يوم التصادم والانقسام ، وسألت عائلتي عن الحقيقة؟

فقدموا لي شرح بسيط قاربتهُ بعقلي للحديث الشريف، مختصرهُ بأني من أتباع النبي محمد (ص) الذي اعتنق الإسلام وبشّرَ الناس برسالة الله وأنزل القرآن الكريم وبأنه خاتمُ الأنبياء والرسل أجمعين..

لم أفهم بالطبع حينها, لكني حفظت الأسماء والألقاب , ولم يدخل في عقلي لماذا علنياً نفترق عندما نتكلم عن الدين, فنحن متشابهين!! نملك ذات الجسد وذات العقل وضمن المقاسات ذاتها, لما نفترق ولما ننقسم ولما يطلق علينا ألقاب للتميز فيما بيننا؟؟ فلماذا إذاً أحترق بأسئلة وجودي وما هو ديني بينما أعلم من هو خالقي؟

وبعد سنين من دوامة السؤال دون جواب ,جاء ذاك اليوم الذي استوعبت فيه سرية المكان المقدس الذي يُطلق عليه العلويون مسمى (الزيارة) ، أي نزور مرقد قبر شيخٍ أو علامة من علائم الطائفة العلوية ممن له قدسيته و براهينه على ذلك، هناك مقام تقصده الناس لتشفى من أمراض العيون، و أيضا مقامات لتشفى الناس من الحسد والعين، كما هناك مقامات ينده لها الناس تشفعاً لتردَ لهم على حد ظنهم الغائبون عنهم جسدياً

 

ما يفعلونه ويخافونه:

حول المقام الشريف تقرأ الناس بالكتاب المقدس *القرآن بصوت باطني خافت، والبعض الآخر يمارس عادة اقتصاص قطعة من القماش ذو اللون الأخضر الملتف من حول القبر، لاعتقادهم أنها تحميهم  وتبارك زيارتهم ،والويل ثم الويل لمن يفرط بالعناية بهذه القماشة أو تضيع منه كونها مباركة وتدل على طائفتهم حين يضعونها حول معصمهم أو ضمن سنسال أو حتى فوق كتيبة أي لفافة ورق قد كتب الشيخ بداخلها دعوات تحمي صاحبها ، والبعض الأخر منهم يحتفط بلفاقة القماش الأخضر ضمن دفتره الخاص, يقبلها بخشوع متى شاء كعربون محبة وصلة وصل مع الخالق , لذلك فكرة الحرص عليها كي لا تضيع مهمة وتدعو للخوف من أن نكسب ذنب فقدانها كما هي المعتقدات المتوارثة أب عن جد..

إنهم يدخلون للمقام عراة الأقدام حافيين متجردين من أوساخ الطريق ،يلقون بأحذيتهم إلى الخارج..

باب المقام قصير جداً ,يُقبّلون الجدار يميناً ويساراً، ويمارسون طقوس عبادتهم في الداخل فيدعون إيجاباً لأحبائهم، يطلبون المعجزات إلى وجه الله مباشرةً من هذا المكان، يتكرمون بمبلغ من المال حسب قدرتهم إلى صندوق أسود مقفل, يكون مسؤولاً عنه خادم المقام ,وهو شخص أمين يقوم بحماية المكان ,تنظيفه وتأمين حاجاته ونواقصه ,كي ينعم الزائرون ببركة الحضور والدعوات لوجه الله فقط, فهو لا يريد مقابلاً غير الرضا والعون بلقمة طعام أو مساعدات بسيطة

 كما تعود مقتنيات الصندوق للفقراء والمحتاجين من أبناء القرية أو من يحيط بها ولكل محتاج لجأ عوناً إليهم

خشوعي وتقبلي للحقيقة:

تقلدتُ بعائلتي و خلعت حذائي، شعرتُ برهبة وصمتٍ في المكان لدرجة أنني لأول مرة استمعتُ بشكل مقرّب ومخيف لنبضِ قلبي الذي سألت والدتي عنه بلحظتها وأجابتني بأن المكان هنا يحبني ويجب أن أحبه كما أحبني 

سألتها : كيف؟ 

ردّت : بشكل بسيط وغير معقّد ، ذلك بأن اقرأ في سطور القرآن و أُشعل البخور كي أدورَ به حولَ المقام ,فأُصلي و أدعي بما أردتُ من الله حتى يستجيب لي، وأن أبدأ بسورة الفاتحة فورَ دخولي كي يرضى اللّه عني ويتقبل صلاتي

وبالفعل حققت ما طلبته والدتي مني لكني لم أكن قد حفظت سورة الفاتحة ،فتمتمت بكلام آخر لا حروف مترابطة فيه أو معنى 

لقد كررت اسم لله على لساني خوفاً، فانتبهت والدتي بأن نطق سورة الفاتحة قد اخذت مني خمس دقائق وهي تحتاج لعشر ثواني فقط ، فوبختني عندما خرجنا لأنها اكتشفت تقصيري في حصة الديانة, كما أنها وبختني لأنني لم أخرج من المقام كما فعلت هي, حيث يكون ظهرها متجهاً نحو باب الخروج و وجهها متوجهاً للمقام. احتراماً إليه حتى لا ندير ظهرنا إليه بل وجهنا المبتسم 

إنها العادات والتي امتدت بنا إلى تقبيل الخبز الذي يسقط على الأرض لمعاودتنا مضغه بسبب الفقر المتوارث و كي يحلل علينا أكله بعد أن لامسته الجراثيم وعدم القدرة إلى إحضار خبز آخر فقاموا بتحليله شريطة أن نتلو أيةً من القرآن على الخبز ثم نأكله مرتاحي البال

وهي أيضا العادات التي تقتضي علينا قلبَ الحذاء إن كان مقلوباً متجهاً للسماء لأنه ينتهك احترام الله عز وجل عند العلويون، على الرغم من أن هذا الحذاء ذاته له الفضل الأكبر في التنقل والحركة دون الشعور بالألم في القدم نتيجة وجود نعل يحميها لكن الطقوس المتوارث فرضت خلع الحذاء بعيداً عن المكان المقدس وخلعه أيضا قبيل الدخول للمنازل كنوع من الأدب والخلق الحميد .. إنها مقدسات ومتوارثات يصعب تعديلها

تلقيتُ عدة توبيخات من عائلتي لعدم فهمي أصل ديني ومن أنا بين الناس؟

حاولتُ ممارسة الطقوس والتقيد بالتعاليم من تقبيل يد الشيخ إلى تزكيته ليرتد المعروف لي إلى زيارة المقامات وخلع حذائي مع خوفي من فقدانه ومشيي عارية القدم إلى منزلي فقد لطالما رافقني هذا الكابوس في طفولتي، كما اعتدت تقبيل الخبز إن سقط، و البسملة قبل الطعام لنتبارك ، وضعت قطعة قماش أخضر في محفظتي لتندرج ضمن المحميات الخاصة بي بعد محمية الله وملائكته، تجنبت رؤية حذاء دون أن أُصلح وضعيته لتتماشى مع ما اعتدته، كما أني و الأهم قد أدركتُ حدودي مع ذلك الدفتر السري الخاص بأخي الأصغر مني و الذي قد ُأعطي له عند توجهه إلى سيده في الدين ليعلمه أسرار ديانته الباطنية التي حُلِلت له وحُرمت عليّ كوني ناقصة العقل والدين..

فمن أنا من اسمي الذي حصلت عليه كي يميزني أبي عن أخوتي وكي تنادي أمي به إليّ عندما أغيب خطوات عنها قلقاً منها عليّ, وكي يشير زملائي به عني عندما يحين دوري في التسميع ضمن حلقات التعليم بالمدرسة ,وهو ذاته الذي لا يحدد ما هو ديني كونه اسمٌ أجنبي ليس له مدلول ديني إلى حين أكملهُ مع لقب عائلتي فينكشف المستور ويقدمني للمجتمع بمن أنا بالنسبة لهم وليس بالنسبة لي .  

ليفانت: سالي علي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!