الوضع المظلم
الخميس ٠٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
مقبرة اليرموك بين التدمير والتعفيش
ماهر إسماعيل 

‎منذ أيام قليلة رحل الصديق القديم الصحفي نبيل أيوب، الذي كان قد عمل في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين في أكثر من شأن ثقافي، خصيصاً مع البعثات الأجنبية في العاصمة دمشق، وهو الذي شهد واقعة مخيم اليرموك منذ قصف طائرة "الميغ" التي ساهمت في خروج أعداد كبيرة من سكان المخيم إلى خارجه، ووضعه على سكة المناطق المستهدفة، وأمام جامع الماجد القريب من ساحة "البطيخة"، ومنهل" القاعة"، توجد خيمة يتواجد فيها عدد من النساء والرجال الذين ينتظرون انتهاء الصلاة على جثمان كل ميت يومياً.

‎هناك، وأنا أنتظر انتهاء الصلاة على جثمان نبيل بدأت بعد الشاحنات التي تخرج من المخيم محملة بالخردة، وهي شاحنات كبيرة وذات أوزان ثقيلة تحمل كل ما هو قابل للبيع كنفايات صلبة قابلة للصهر، وإعادة السكب في أشكال جديدة، وعندما بلغ عدد الشاحنات ثمانية خرج التابوت، وأشار لي الصديق وليد بأنه يجب الانتقال إلى السيارة للدخول إلى المخيم الذي غادرته منذ العام 2014، ولم يتثنَّ لي الدخول إليه بعدها أبداً.

‎ومع جثمان نبيل والأصدقاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) يتاح لي الدخول إلى إحدى المناطق الأحب في حياتي، وبعد وضع الجثمان في سيارة الإسعاف، والتوجه نحو حاجز الدخول، عبرت سيارة وليد الحاجز كان في الجانب الآخر من شارع الثلاثين أكثر من عشر شاحنات كبيرة محملة بالمواد المعفشة من بيوت وشوارع المخيم تنتظر مغادرة المخيم إلى حيث يقرر تجار الحرب من المواد الصلبة.

‎أشحت بنظري عن هذه الشاحنات، وغبت في ذاكرتي بمنطقة غربي اليرموك، حيث كانت المقاهي والملاعب الصيفية والربيعية، وحيث كنا نجلس ونتناقش بعد كل جلسة من الجلسات مجلة "الكفاح"، والأحاديث تطول وتطول حول كيفية تطوير هذه المجلة الشبابية بوجود الأصدقاء، منهم الذي غيبه الموت "الراحل سمير صالح" مدير التحرير، ومنهم من غادر البلاد منذ السنوات الأولى للثورة السورية، الصديق المحامي "أيمن أبو هاشم"، والصديقان، المسرحي "علاء الدين العالم"، والصحفي "وسيم السلطي"، والصديقان "يزن الصالح"، و"شريف الشريف"، ومخرج المجلة الفنان إبراهيم مؤمنة، الذين لم يغادروا سوريا، وإنما بقي شريف طيلة حصار اليرموك في بيته بشارع العروبة جانب جامع حمزة.

‎في مساحة هذه الأرض القاحلة كان يطيب لعلاء ووسيم، وأحياناً أشاركهما لعب كرة القدم في ملاعب العشب الصناعي والأركيلة في طبيعة ليلية جميلة تحت الأضواء الكاشفة، والتخطيط للعديد من أعداد المجلة من الحوارات الثقافية والسياسية الطويلة، يشاركنا الصحفي والناقد ماهر منصور.

‎وعلى طول شارع الثلاثين في المقلب الثاني الخارج من المخيم أصوات المطارق تشق أعنان السماء الصافية التي تتمايل مع الأبنية المهدمة نحو أرض المخيم، لكي تقبلها إنحاء لصمودها في وجه أعتى نظام ممانع، لا يفهم من الممانعة سوى مصالحه في الاستمرار.

‎ورش الهدم واستخراج حديد الأسقف والأعمدة أصوات مطارقها تملأ فضاء المخيم دون أية ملامح للمكان والطريق، ولا يظهر ما كان يسمى "سوق السيارات"، وفيه يزداد عدد المجموعات المنظمة من ذكور وشباب ونساء يعملون في فرز الحديد والبلاستيك والأدوات المستعملة المتبقية بعد موجات التعفيش المديدة، وتمر السيارة على معفشتين تحملان كومة من قضبان الحديد المربوط على رأسيهما الذي ينوء تحت ثقل القضبان، وأطلق وليد شتيمة كبيرة قائلاً: "أهل اليرموك ما كان ناقصهم غير مجموعات العمل المنظمة لاستمرار هدم البنايات واستخراج الحديد منها وبيعه لحيتان سوق الحديد في سوريا".

‎وعندما لفت السيارة (كوعاً) أخبرنا "وليد" أن هذا هو شارع اليرموك الذي يفضي إلى المقبرة الكبيرة القريبة من الحجر الأسود، فيه العشرات من مجموعات العمل التعفيشي بهويات دخول نظامية تعمل يومياً لإنجاز هدم اليرموك وسرقة الحديد وما تبقى من أدوات في البيوت قابلة للسرقة، رغم هذه المجموعات الكثيرة المنتشرة إلا أنها لم تنجز الكثير من السرقة والتعفيش من أبنية مخيم اليرموك، جنوب العاصمة السورية.

‎اعتقدت أن للأموات حرمتهم في الحياة العامة والخاصة السورية، إلا أنه ما إن دخلت المقبرة خلف نعش الراحل نبيل حتى بدأت أكتشف مقدار التدمير والتعفيش الحاصل فيها، إذ نادراً ما وجدت شواهد القبور واقفة على قبر صاحبها أو صاحبتها، فالتكسر والتدمير طال القبور ذاتها والشواهد، خصيصاً أن المخيم وسكانه منذ العام 2012 خارجه، ويسمح فقط لذوي الموتى الدخول إلى المخيم ومقبرته لدفن الموتى اللذين توفوا خارج المخيم، فهذه شاهدة قبر "المرحومة الحاجة مريم محمد دراج" توفت بتاريخ (27 ربيع أول 1432 - 2/3/20011) في غير مكانها، وقبر المغفور له "قاسم صبري العايدي، أبو سمير، تولد العام 1947، مغار حزور، توفى 12 ذي الحجة 1428 الموافق 21/12/2007"، وشاهدته الملتصقة بالقبر، بينما نجد مدفن آل جبريل مسور بالحديد ومقفول، وفيه الأمين العام للجبهة الشعبية (القيادة العامة) الراحل أحمد جبريل، وابنه جهاد، وهذا يوضح أنه حتى في الموت هناك مقامات، حيث لم يتجرأ أحد على المساس بالمدفن، بينما قبور الفقراء الذين لا سلطة لهم محطمة ومعفشة شواهدها ورخامها.

‎القبور المكسرة وأمواتها يستصرخون من بقي فيهم ضمائر بأن للموت والأموات حرمتهم، وبقايا الرخام والبلاط المنتشر فوق القبور بغير انتظام مفسحاً للعشوائية والفوضى التي كانت منتظمة في خطوط وممرات بين القبور، وكأن الأموات قد دخلوا مرحلة الفوضى المنظمة التي لا يظهر منها فوق الأرض سوى الريح التي حولتها إلى موجات ترابية غير مستقرة وأحجار.

‎وبعد تقديم العزاء على بوابة المقبرة توزعنا على السيارات، وصعدت لسيارة وليد، وبدأت المشاهدة لملوك العفيش زرافات تعمل في بوابات الحارات نحو جسم المخيم التي يصعب التميز بينها رغم معرفة ركاب السيارة الخمسة بكل الحارات ومن كان يسكنها.

‎وعند آثار مستشفى فلسطين تمهل وليد قليلاً وأوضح أن شغيلات التعفيش أصبحن يعرفن طرقات المخيم أكثر منا جميعاً، بعد أن أصبحن سيدات المكان في ظل نظام الممانعة الكوني من طهران إلى الناقورة والقنيطرة في جنوب سوريا ولبنان.

‎ومما يلفت النظر، أكوام الهدم والنفايات على جوانب الطريق، والمعفشون الذين ينقبون هذه المكبات ويدخلون البيوت لجمع ما تبقى، ويظهرون من نوافذ البيوت والأبنية الواقفة، وأمام الحاجز في منتصف شارع اليرموك يفتح أحد حملة البنادق "طبون" السيارة، ويسأله وليد: ماذا تتوقع أن تجد فيه.. إنه فارغ إلا من بقايا الذكريات التي نعيشها في كل جنازة نشيعها "رحمك الله يا نبيل" ورحم أيام صمودك في المخيم.

‎يرفع "وليد" يده لأصحاب مشحم عامر الذين عادوا إلى المخيم، وتسير السيارة على مهل لتصل إلى شارع لوبية، وأمامه فرن أبو فؤاد (أنظر إلى ساحة الريجة المدمرة) وأتذكر معارك نهاية العام 2013 وبداية 2014، والاشتباكات مع داعش المخيم، وكيفية توزيع المساعدات في الساحة، والأرتال الكبيرة لأهل اليرموك المحاصرين.

‎ومع سؤال أم خالد عن سعر كيلو الحديد المعفش (أفيق من شرودي)، يرد وليد أن الكيلو على القبان 400 ليرة سورية، ولكن هؤلاء المعفشين يعملون باليومية حسب كل متعهد، فمنهم من يوميته (10) آلاف، ومنهم من يوميته (25) ألف ليرة.

‎أخيراً.. إذ بقيت الأمور بيد تجار الحرب وعفيشتها، وملوك الخردة سيطول ليلك يا يرموك أكثر مما طال، إلا إذا تظافرت جهود أبناء اليرموك مع الفصائل وقادتها، لكي يرفعوا يد تجار الحرب والحديد والخردة عن أبنية اليرموك، وتعود الفصائل لتعمل يداً واحدة من أجل عودة أهالي اليرموك وشارع فلسطين إلى بيوتهم وحاراتهم وأحيائهم لأن جيوب تجار الحرب والخردة لا تشبع أبداً.

‎فالتحدي الجديد الذي يواجه فلسطينيي مخيم اليرموك كبير جداً في ظل الأوضاع الاقتصادية المتضخمة وارتفاع الأسعار الشديد، هل تستطيع أزمة مخيم اليرموك وأهله دفع الجميع للعمل يداً واحدة من أجل عودتهم التي لن تكون قبل أن تنجز الخدمات الأساسية في البنية التحتية التي على أساسها يستطيع سكان المخيم العودة إلى بيوتهم ومحالهم التجارية التي غيبوا عنها ما يقارب العشر سنوات.

‎ليفانت - ماهر إسماعيل      

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!