الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
مشيخة العقل والعلاقة مع دمشق
عمار ديوب

يا شيخ حكمت، نريد أن تتدخل وتفرج عن الضابط والعناصر. ردّ فوراً: سأفعل، ولكن نريد أن تفرجوا عن الشاب "راجح الصحناوي" فجاءه الرد: لك ذلك؛ إذا انتظر يومين وسيكون لديكم الرجل وعناصره. بعد عدّة أيام يتصل الشيخ: يا أخي "لؤي" لم تفرجوا عن الشاب؛ رجل الأمن: ألا تخجلون من هكذا طلب، وأنتم لديكم آلاف الشباب لم يلتحقوا بالجيش، وأسمعه كلاماً لا يليق بمكانته الدينية. حين سمع ذلك الشيخ، وهو أحد كبار مشيخة العقل وأهمهم، أغلق هاتفه، وقد ضاقت الدنيا به؛ وراح يسائل نفسه، ألا تفهم القيادات الأمنية هذه، بأنّنا نتحمل كل موبقاتهم، ونضبط الشباب لدينا، ومع ذلك لا يحترمون مكانتنا، وكوننا أهم الضامنيين لتحييد المدينة، ومنعها من الاشتراك بالثورة ومعاداة النظام. مشيخة العقل 


الشيخ حكمت الهجري، يُكلم نفسه: سأربي هذا الضابط، اتصلَ ببعض الأعيان، والشخصيات الهامة في مدينة السويداء، وشرح لهم ما حدث، وأنّ الضابط لم يفرج عن الشاب ولم يحترمه، وأنّ هذا يعني أنّه لا يحترم أية شخصية كبيرة في المدينة. أيام معدودة، وبدأت المدينة تغلي، والسؤال كيف يقلّل هذا الضابط من شأن رمزنا وكبيرنا وطائفتنا؟ الدم الحامي دفع بعض الشباب، للقول: إنّ قتل هذا الضابط مسألة بسيطة، وهناك من قال إنّ بمقدوره اختطاف عشرات الضباط من جديد. رفض الشيخ والأعيان كل هذه الأفكار، وطالب الجميع بعدم تصعيد الأجواء، ومقابل ذلك لا بد من إظهار العين الحمراء للنظام وعسسه وأتباعه المخلصين، فانتشرت عناصر الفصائل المستقلة عن النظام، واضطرت العناصر التابعة له والمنخرطة ضمن فصائل "الدفاع الوطني" للانضمام إلى رفض خطوة ضابط الأمن.


وصلت رسالة الاحتجاج القوية من الشيخ والمدينة إلى العاصمة، فأمرت القيادات الأمينة العليا ترضية الشيخ حالاً، فبدأت الاتصالات الهاتفية من كبار رجال الدولة والوفود الرسمية والحزبية تصل إلى مضافة الهجري، تستعطفه، وتطيب خاطره، وأنّ هذا الضابط لم يكن يقصد الإساءة، وهو لا يتقن أصول التحدّث مع المشايخ، وربما لديه ضغوط عائلية معينة، وراحت تتعدّد الأسباب المخففة من فعلة الرجل، وضبضبة الحكاية، وضمن ذلك، أُفرج عن الشاب من فوره كذلك؛ وهناك تسريبات تؤكد اتصال الرئيس السوري بالشيخ للاطمئنان على صحته، والقصد ضبضبة الحكاية.


لا يمكن للشيخ، وهو المستفيد من بعض أعطيات النظام، وارتفع شأنه بين شيوخ العقل أنفسهم هذه المرة أن يطالب باستبدال الضابط الكبير هذا، ويكفيه أنّ مكانته اهتزّت بشكلٍ كامل، والآن سيفكر هو وقيادته باستبداله لا محالة، وهناك من يقول أنّه أقيل، سيما أنّ المدينة مضبوطة، وهادئة، ولن يتمكن من تقليب القلوب نحوه، وبالتالي، يتوقع بعض المتابعين لشأن المدينة، أن يؤتى بغيره، وينقل إلى مدينة أخرى، ليسيء لأهلها كما هي عادته، وهذا من صلب سياسات المنظومة الأمنية المركزية، وهناك من يؤكد أنّ الإشكال الذي حدث مع الشيخ الهجري، ليس بلا دراسة وتخطيط، ولمعرفة ردّ فعل المدينة في إطار استمرار النظام البحث عن تطويع المدينة من جديد وبشكلٍ كامل.


تتعرّض السويداء إلى صراع بين المصالح الروسية والإيرانية، فكل من الدولتين تريدان المدينة لها، وهو حال كل سوريا "المفيدة" الواقعة تحت سيطرة النظام، فهي إمّا لإيران أو لروسيا. وعدا ذلك، فالمدينة تتاخم مدينة درعا، المنكوبة وغير المستقرة، وهناك تهديد داعش، كما جرى من قبل، والنظام ذاته لن يعدم محاولاتٍ جديدة لتطويعها. وعدا هذا وذاك فهي تعاني كما كل المفيدة هذه، من نقصٍ في كل الاحتياجات؛ فهناك طوابير الخبز والوقود وانقطاع الكهرباء والوضع المعيشي الكارثي، وبالتالي لا بد من لملمة القضية أعلاه، والاستمرار بذات الوضعية السابقة، أي التحييد، واستقبال الوفود الروسية والإيرانية، ومناورتها، بحيث لا تقع المدينة فريسة إحدى هاتين الدولتين، وهذا يقتضي منها عدم القطع مع النظام، وبقية سورية. إذاً هناك حسبة لا يمكن لشيوخ العقل والشخصيات الأساسية في المدينة تجاهلها، ونضيف عدم إثارة العاصمة أكثر فأكثر، فهي بمقدورها، وحين تسوء الأحوال استخدام الأسوأ، ونقصد تدمير المدينة.


إذاً ليس من جديد في هذه المدينة، وليس من قوّةٍ إضافية لمشايخها كذلك، ولكنها ووفقاً للأزمة المعقدة، فالمدينة معرضة لمزيد من التردّي الاجتماعي والاقتصادي، وستتعزّز فيها النزعة المذهبية والعائلية، وهناك الفصائل المسلحة التابعة للنظام بهذا القدر أو ذاك. النزعة الوطنية، التي عادة ما توصف بها، وإرث سلطان باشا الأطرش، وهناك مركزية مشيخة العقل على لبنان والأردن وفلسطين، كلها تتراجع تباعاً، وتتآكل القوى التي كانت تدعو للوطنية وللقومية واليسارية. النزعة المذهبية فيها والعائلية وفوضى السلاح، هي حالة عامة في سوريا، ويشكل غياب بديلٍ اجتماعي وسياسي سبباً إضافياً لتقوية تلك النزعات، وهي بكل الأحوال تعزل المدينة في حدودها أو ضمن المناطق التي فيها "دروز"، كبلدة جرمانا أو صحنايا أو مع بعض البلدات غرب دمشق، وبالتأكيد مع دروز الجولان وربما دروز إدلب؛ هذا إطار عام للوضع السوري.


الجانب المذهبي ورغم غلبته، لا يشكل حاملاً يمكن الارتكاز إليه، وغياب سواه، الوطني أقصد، يدفع لتعزيزه. إنّ غياب المشروع الوطني للدولة يؤكد ذلك الانعزال، ويفتح لعلاقاتٍ محدودة مع الدولة يؤمنها مشايخ العقل، وخدمات الدولة البسيطة "مؤسسات التعليم والكهرباء والنت وسواها وأجهزة الأمن والحزب"؛ الفكرة السابقة، تؤكد، وبغياب الدولة القوية بل واستنادها إلى روسيا وإيران، أنّ خيارات المدينة محدودة للغاية، ولا تتجاوز تأكيد نزعة الانتماء للدولة السورية، ومناورة الروس والإيرانيين بشكل مستمر، ورفض محاولات النظام إخضاعها كما قبل 2011؛ في ظلّ هكذا أجواء يمكننا تفهم علوّ دور المشيخة، والنزعة المذهبية بعامة والعائلية كذلك، وأيضاً تجذّر النزعة الاجتماعية المناهضة للنظام وأيديولوجيته وسياساته؛ الذي أصبح عالة على سوريا المفيدة وغير المفيدة.


يعي جيداً حكمت الهجري كل التحليل أعلاه. عقله ومشيخة العقل تدفعانه مع بقية الشيوخ دائماً للبحث عن التهدئة والحلول الوسط، وضبط المدينة وفصائلها، ومسك العصا من الوسط؛ فلا هو بقادرٍ على رفض النظام بشكل كامل، ولا هو يستسيغ إعادة الصلة مع دمشق الضعيفة؛ فهي خاضعة لإيران والروس؛ إنها شعرة معاوية بكل بساطة، وعلى أملٍ بتحقيق صفقةٍ قريبة بين الأمريكان والروس، تسمح للسوريين بتشكيل هويتهم الوطنية من جديد. مشيخة العقل 



عمار ديوب


ليفانت - عمار ديوب  


 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!