الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
مبادرة بيدرسون
ماهر إسماعيل

مع طرح سياسة "خطوة مقابل خطوة" التفاوضية تعود الذاكرة السورية والعربية إلى مبدع العملية التفاوضية بين العرب، الفلسطينيين والمصريين من جهة، وبين الكيان الصهيوني، ووزير خارجية الولايات المتحدة الأشهر، هنري كيسنجر، مهندس سياسة الخطوة مقابل خطوة، ففي التسوية الفلسطينية الإسرائيلية قدمت القيادة الفلسطينية كل شيء تقريباً، ولم يحصلوا على ما يرغبون وفق القرارات الأممية في مجلس الأمن.

فالمفاوضات (السورية - السورية) عبر "خطوة مقابل خطوة" تنبش جولات المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية غير المفيدة في ذاكرة السوريين، ويؤكد بيدرسون لوفد هيئة التنسيق الذي اجتمع معه بدمشق منذ فترة قصيرة، أن مشروع "خطوة مقابل خطوة" ما زال في إطار "العصف الذهني" لمقاربة إنسانية للأوضاع السورية في مناطق سيطرة النظام وخارجها، ولا تدخل في المجال السياسي، وإنما في إطار التعافي المبكر.

ويبدو إصرار بيدرسون على مبادرة الخطوة بخطوة سببها استمرار التهميش الدولي للقضية السورية بما تمثله من وجود قوى احتلال عسكرية على الأراضي السورية، واستمرار المسارات التفاوضية غير الفاعلة من "سوتشي"، الذي قدم العملية الدستورية على أية سلة من سلال ديمستورا، ومسار أستانا، مبدع مناطق خفض التصعيد التي ذهبت أدراج التكتيك العسكري الروسي الذي ابتلع ثلاث مناطق من مناطق خفض التصعيد الأربعة.

وغالباً ما كانت تتم جولات المفاوضات في مسار"أستانا" بدون حضور السوريين، وإنما "بوتين، أردوغان، وحسن روحاني"، أما "سوتشي" فقد أثمر فتح اللجنة الدستورية، وحتى جولات مسار "جنيف"، سواء في التفاوض السياسي أو في "اللجنة الدستورية"، كانت تتم في غياب الأطراف العربية، وحتى جامعة الدول العربية، وفي الكثير من المؤتمرات العالمية حول المسألة السورية، كانت تتم في غياب الأطراف السورية.

وبعد فشل "ست جولات من مفاوضات اللجنة الدستورية"، وجولات أفشل في مسار جنيف التفاوضي، يتراجع حضور القضية السورية من بوابة القبول الدولي الواضح بالدور الروسي، وحسب استقرار المناطق المسيطر عليها من الدول المحتلة لأجزاء من الأراضي السورية، واستقرار التدخل الإيراني اتجهت القضية السورية إلى الاستقرار عما هي عليه منذ العام ٢٠١٩، ولا يخرق هذا الاستقرار سوى الموقف الإسرائيلي من الوجود الإيراني من خلال الضربات الجوية للمواقع وأماكن تخزين الأسلحة.

إنّ تهميش المجتمع الدولي ومجلس الأمن للقضية السورية، وفتح المجال بشكل واسع أمام اجتهادات المبعوثين الدوليين من ديمستورا وسلاله الأربعة إلى بيدرسون وسياسة التفاوض "خطوة بخطوة"، يتضح مقدار الاستعصاء الحاصل في الملف السوري، بغض النظر عن القرارات الأممية والمواقف الدولية من القضية السورية. وكما يدّعي بيدرسون أنّ "خطوة بخطوة" ستؤدي في النهاية إلى تطبيق قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤، عبر تنازلات متبادلة من المجتمع الدولي والنظام السوري حول ملفات عديدة منها (المعتقلون والمفقودون، المساعدات الإنسانية، التعاون في ملف مكافحة الإرهاب، دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تقع خارج سيطرة النظام عبر معابر متعددة، سواء في الشمال، والشمال الشرقي لسوريا، والشمال الغربي، عودة اللاجئين الطوعية والآمنة، وكذلك النازحون داخل البلاد، تحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية من بوابة رفع العقوبات والتعافي المبكر، وترسيخ الهدوء الميداني والعسكري في عموم سوريا).

ويؤكد بيدرسون في اللقاء مع هيئة التنسيق، أن أهم نقطة يفتقدها السوريون فيما بينهم هي الثقة، ولو توفرت لكانت قادرة على تذليل العقبات التي تعترض محادثاتهم في اللجنة الدستورية، لذلك في مبادرة "خطوة بخطوة"، كل النقاط غير التفاوضية ستكون مجالاً واسعاً لإنعاش الثقة بين السوريين عبر مراقبة ومتابعة مباشرة من فريق مبعوث الأمم المتحدة العامل في القضية السورية. ورد الوفد على ذلك بتقديم أكثر من مثال عن حياة السوريين مع هذا النظام، خصيصاً في الخداع والمناورة واللعب على الأشكال التي كانت قائمة والمستحدثة.

في بداية انطلاق ثورة الشعب السوري طالب بإلغاء قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة سيئة الصيت والسمعة، ورد النظام بإلغاء قانون الطوارئ، لكنه زاد عدد المعتقلين، والإجراءات الاستثنائية، وأقدم على إلغاء محكمة الدولة، لكنه أنشأ محكمة مكافحة الإرهاب، وأصبحت أكثر سوءاً من محكمة أمن الدولة. لذلك ينبغي الحذر في التعامل مع النظام، خصيصاً أنه يستغل كل ذلك من أجل الاستمرار في المراوغة وعدم تقديم أي شيء، وخير مثال على ذلك، ما جرى في اليوم الخامس من الجولة السادسة من محادثات اللجنة الدستورية، حيث أعاد وفد النظام كل الاتفاقات التي جرت في الأيام الأربعة من المفاوضات إلى نقطة الصفر، ولم تستطع المحادثات تحقيق تقدم يذكر، وهذا ما نحتاج إلى برمجته في مفاوضات الجولة السابعة.

إنّ تعنّت النظام وعدم موافقته على القرارات الأممية الصادرة عن مجلس الأمن منذ بيان جنيف بتاريخ ٢٠١٢/٦/٣٠، إلى القرار الأممي (٢٠١٨) في العام ٢٠١٣، وصولاً إلى القرار رقم (٢٢٥٤) في العام ٢٠١٥، الذي يتوجب التنفيذ الكامل والصارم له. فالمطلوب من القوى الدولية الفاعلة في الملف السوري الضغط على النظام لكي يكون متجاوباً مع العملية التفاوضية في كافة مساراتها، خصيصاً اللجنة الدستورية التي لم تحقق تقدماً يذكر في جولاتها السابقة، والتقسيم الحاصل يقسم الاقتصاد السوري إلى ثلاثة نماذج. النموذج الأكثر سوءاً موجود في مناطق سيطرة النظام، بينما النموذج في الشمال الشرقي، هو الأقرب إلى مجارة الحياة الإنسانية للمواطن السوري رغم كل ما فيه من سلبيات وعيوب، أما في الشمال والشمال الغربي هو خليط من احتلال تركي يعمل على تتريك كل ما يقع تحت يده إلى جانب وجود "هيئة تحرير الشام، النصرة سابقاً"، والجيش الوطني بفصائله المتعددة.

إن الحقائق التي يحاول بيدرسون الهروب منها إلى الأمام عبر مبادرة "خطوة بخطوة" هو الفشل الذريع للمسار التفاوضي في العملية السياسية السورية، ويتجلى ذلك في سلة اللجنة الدستورية في جولاتها الست التي لم تحقق شيئاً يذكر، وكانت هذه الجولات تجري في ظلّ توافق أمريكي روسي، دولي، فكيف سيكون مصير الجولة السابعة المزمع عقدها بين (٢١ - ٢٠٢٢/٣/٢٦)، وطبول الحرب والعقوبات الأمريكية والأوربية على روسيا في مرحلة التحضيرات لحرب في أوكرانيا، وبعد اعتراف روسيا باستقلال "دونيتسك ولوغانسك"؟

هل يستطيع السوريون تجاوز انقساماتهم العمودية والسير نحو تحقيق سوريتهم من خلال الانحياز إلى دستور سوريا المستقبل، أم أن الصراع الدولي الحاد القائم سيعمق انقسامات السوريين إلى المحاور الدولية المتشكلة في العالم على أبواب الحرب، وأقلها الحرب الباردة بين الغرب وروسيا؟

وإلى جانب تلك الوضعية المتشكلة، في العالم، مطلع العام الجاري، توجد ملفات عالقة في أروقة الحل السياسي التفاوضي السوري، مثل ملف "المعتقلين، المختفيين قسرياً، والمفقودين"، ورغم وجود لجنة خاصة بهذا الملف في إطار الأمم المتحدة وفريق المبعوث الدولي إلا أنها لم تستطع تقديم شيء حقيقي على صعيده بسبب نقله إلى مسار أستانا، واعتباره ملف أسرى حرب، فكيف سيعمل بيدرسون وفريقه على استرجاعه ليكون بنداً مركزياً في مبادرة خطوة بخطوة؟

لا نريد الدخول إلى بوابات تحميل المسؤوليات في هذا الملف بين النظام والفصائل العسكرية المعارضة، ومناطق سيطرة الأمر الواقع.

هناك بند في المبادرة هو عودة اللاجئين السوريين من بلدان الشتات السوري، والمشكلة هنا أن العودة الطوعية الآمنة التي يقررها الأفراد، فمن يستطيع إقناع اللاجئين في الاغتراب بالعودة، وأصبح اللجوء إلى خارج البلاد حلم كل إنسان سوري؟ فالنازحون في الداخل السوري لا يستطيعون العودة إلى منازلهم إلا عن طريق طلبات تدرسها جهات أمنية وإثباتات ملكية، كما يحصل في مخيم اليرموك، وهؤلاء لهم جهات دولية مثل "الأنروا، الفصائل، والسلطة الفلسطينية"، وحتى الآن لم يعودوا إلى بيوتهم الصالحة نتيجة عدم وجود خدمات أساسية.

وبند آخر في صلب مبادرة "خطوة بخطوة"، هي المساعدات الإنسانية، حيث كشف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريش، أمام مجلس الأمن أن (٩٠ بالمئة) من السوريين يعيشون في فقر، وأن (٦٠ بالمئة) يعانون من انعدام الأمن الغذائي، كيف سيتعامل بيدرسون والأمم المتحدة مع هذا الملف؟ هل سيبقى السوريون تحت رحمة الفيتو الروسي في فتح معابر آمنة لوصول المساعدات، ويعمل النظام على استغلال وسرقة المساعدات الإنسانية، ويقدمها للخاصة التي يريدها؟

أخيراً.. رغم أن تطمينات بيدرسون وفريقه لمبادرة "خطوة بخطوة" أنها في الطريق لتكون جزءاً من آليات الحل التفاوضي السوري، إلا أن دون ذلك عقبات شديدة غاية في التعقيد، فهل يستطيع بيدرسون تذليل تلك العقبات؟

ليفانت - ماهر إسماعيل

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!