-
مأساة السوري الدرزي
منذ أن انطلقت الثورة السورية في آذار 2011، وجدنا أنفسنا أمام موقف غربي مخاتل ومتوحش في الحقيقة، رغم ما شهدناه من مساعدات تحت يافطة إنسانيّة، لشعبنا الذي منذ الأيام الأولى بدأ يتعرّض للقتل الممنهج والوحشي من جهة، ولعب أمريكي بقيادة أوباما من جهة أخرى، من أجل السيطرة على الملف السوري، حيث فتح أفقاً كان يمكن أن يؤدّي الى قيام نظام إقليمي جديد، الذي كان وما زال النظام الأسدي محوره الإسرائيلي بامتياز. كان المهم بالنسبة لأوباما وإسرائيل ألّا يسقط الأسد من جهة، ومن جهة أخرى إغراق سورية في دماء أبنائها، وهذا ما حصل.
في جانب من جوانب هذا المشهد، كانت تدار قضية حماية الأقليات والجندرة من أعلى مستوى دولي، تدار بطريقة مراكز بحوث عابرة وتمويلات للكتابة عن تاريخ الطوائف في سورية، مشفعة بتزوير تاريخي، كتب عن اضطهاد العلويين والدروز والمسيحيين من قبل “سنة سورية”، وهذا محض افتراء على التاريخ، لكن لم يكتب مثلاً عن اضطهاد الكرد.
من هذه الثلّة من “البحّاثة المفاجأة”، كما فاجأنا ستيفان ديمستورا، المبعوث الأممي لاحقاً، بتشكيل لجنة استشارية مهمتها تمكين المرأة، مشكّلة من النظام وبعض من يدّعي المعارضة، وهنّ نظام. وتوالت توليفات ماسمي باجتماعات المجتمع المدني لدى النظام والمعارضة، دون أن يكلّف أحد نفسه بالسؤال لديمستورا، لو كان لدينا مجتمع مدني في ظل الأسدية، هل كانت ستقوم الثورة؟ لم يتطرّق ديمستورا ولا تنظيماته المدنية والجندرية للمسألة الطائفية.
السبب في ذلك، أنهم اعتبروا أنّنا أمام طرفين متعاليين على تاريخ الأسدية الإجرامي في حق الشعب السوري، طرف الأسدية وطرف المعارضة التي شاركت بنفس اللعبة، نتيجة لعدة اعتبارات أهمها الضغط الدولي المرعب، والتهديد المستمر من قبل أمريكا وأوروبا برفع الغطاء نهائياً عن المعارضة، ضمن هذه اللوحة التي يكتب عن تفاصيلها وجوانبها مجلدات، سنحاول الاستمرار في كتابة مأساة السوري بمكوناته الدينية والطائفية والإثنية، كنت كتبت عن مأساة السوري السني، الآن سأحاول في هذه المادة الكتابة عن مأساة السوري الدرزي.
انطلقت الثورة السورية في بعض مناطق السويداء، مثلها مثل بقية المدن الثائرة، سرعان ما حوصر هذا الحراك في السويداء من قبل جهات فاعلة في السويداء نفسها من جهة، والنظام من جهة أخرى. ابن السويداء الذي تم وضعه في خانة الأقليات، لا يستطيع الحصول على منزل في عشّ الورور، كما لا يستطيع أن يستأجر منزلاً في جرمانا أو صحنايا مثلاً، ويضطر إلى البحث عن سكن رخيص في مناطق المخالفات حول دمشق، حي التضامن مثلاً، السويداء لولا جهود بعض أبنائها المغتربين أفقر من الريف العلوي تاريخياً، إن لم تكن مثله، تماماً كباقي أرياف سورية في الجزيرة وحلب. الدرزي السوري محسوب على أقليّات الأسد، دون أن يستفيد من أي امتياز، مقارنة بمواطنه العلوي، بل العكس تماماً، السويداء تحت الرقابة والإفقار منذ تسلّم الأسد الاب السلطة، ليس هذا وحسب، بل حاول تفتيت رمزية سلطان باشا الأطرش الدرزية والوطنية.
لا يذكر كتّاب تاريخ الأقليات في سورية أنّ الاسد هو من قتل ضباط الأقليات في سورية، سليم حاطوم وعبد الكريم الجندي ومحمد عمران، وأبعد الكثير منهم، عدا عمن سجنهم. رغم ذلك بقيت مشاركة السويداء في فعاليات الثورة مستمرة ضمن الإمكانيات المتاحة من جهة، وضمن الجو الدولي والإقليمي الموبوء ضد الثورة. أهل الجبل كجيرانهم من أهل السهل في حوران، كان اعتمادهم على مغتربينهم، أكثر من اعتمادهم على الاقتصاد الأسدي، هنالك فارق واحد أنّ أهل السهل كان أبناؤهم يلتحقون بسلك الشرطة ممن لم يستطع الاغتراب، هذه ظاهرة أقل بين أبناء الجبل.
السويداء هدّدت أكثر من مرة بتدميرها أسدياً، منذ العام 2000. على إثر تظاهرات عابرة جرت هناك ضد الأسد، طبعا لن أتحدّث هنا عن تشارك الفاعل الديني -مشايخ العقل- في السويداء مع الأسدية. لكونها حالة عامة تقريباً في سورية، فالاعتقالات أثناء الثورة طالت شبابنا في السويداء كبقية المناطق، لشباب السويداء وسلمية وعامودا والقامشلي الفضل في إعطاء الثورة السورية بعداً وطنياً، وعدم ترك الثورة السورية محصورة في مناطق “الاكثرية الموضوعية السنية”، لكن العالم لا يريد أن يرى.
منذ بدء المقتلة السورية رفض شباب السويداء الالتحاق بجيش الأسد في حربه على الشعب السوري، 30 ألف شاب تقريباً ما زالوا يرفضون الخدمة العسكرية. التظاهرات الأخيرة قبل شهرين، وما تمّ، يوضّح أنّ النظام وركائزه في السويداء، من عصابات وشبيحة، يصرّون على استمرار السويداء كأقليّة الخطر عليها من “الأكثرية السنية”، ويجب أن تبقى أسدية، وسائل الترغيب على ندرتها، ووسائل الترهيب على كثرتها، التي استخدمتها الأسدية مع أهلنا في السويداء، بقيت مستمرّة منذ مجيء هذه الأسدية إلى الحكم، في سياق إنتاجها للإشكاليّة الطائفية في كل سورية، هذا لجهة الأسديّة.
أما لجهة المعارضة، هذه المعارضة فشلت أو أفشلت في إدارة كافة الملفات السورية، هذا أساسه الموقف الدولي، بزعامة أمريكا، من هذا الملف، ملف السويداء.
التنظيمات الجهادية التي ولدت بفعل فاعل دولي وإقليمي، التي تشكّلت بعد أقل من سنتين على انطلاق الثورة، شكّلت متراساً جديداً أمام شبابنا في السويداء للمشاركة، رغم أنّ السويداء قدمت شهداء من أوائل المنشقين عن جيش الأسد، الملازم أول خلدون زين الدين.
كما استخدم الأسد والروس داعش للضغط على الجبل، وارتكبت داعش مجزرة هناك، لكن كانت اللعبة مفضوحة هذه المرة، إنّها داعش الأسد التي هاجمت السويداء، مع ذلك التيار الجهادي المدعوم، دولياً وإقليمياً، كان خرقاً للثورة. بعد أن يأست الإدارة الأمريكية في وقف التظاهرات والانشقاقات في الجيش، ففتحت سورية لهذا التيار، وتم جلب الألوف من العراق وتونس والشيشان وغيرهم، بتسهيل تركي. هذه التنظيمات شكلت أيضاً قاعدة لتبني أمريكا وأوروبا الغربية رواية الأسد إعلامياً، هذا خلق حالة غير مريحة لدى أهلنا في السويداء.
لأنّه مطلوب من أهلنا في الجبل أن يبقوا دروزاً أقليّة مناصرة للأسد
بقي ابن الجبل معلّق بين ترهيب الأسد وترهيب بعض الجهاديين، وبين خوفه على طائفته ومدينته، وهنا تكمن المأساة، مع ذلك بقي أكثرية من شباب الجبل ملمحاً وطنياً واضحاً ليس في تاريخ سورية الحالية، بل حتى في تاريخ الثورة، رغم اغتيال الأسد لمؤسس حركة رجال الكرامة، الشيخ وحيد البلعوس، فكل أبناء السويداء والعالم يعرف من اغتال الشيخ البلعوس.
عصابات خطف وشبيحة ومخابرات أسدية وفقر وكورونا.. ما يعيشه أهلنا في السويداء. الأسدية هي الوباء، ويحاول فاعلي المجتمع الأهلي في حوران، سهلاً وجبلاً، من خلال تفاعلهم درء أية مشكلة، تحاول عصابات الأسد وبعض المرتزقة من الجهاديين إحداثها بين السهل والجبل.
شاركني الصديق فاضل الخطيب بهذا التعليق بناء على طلبي ففضلت تركه كما هو حتى بلغته العامية:
الحقيقة استعراض العوامل التي أوصلت الدروز إلى هنا، بل دورهم “القاصر” في الثورة، رغم أهمية دور الثقافة الأسدية والإفقار وغياب غالبية الشباب للبحث عن عمل خارج سورية، أي إشغال الناس بلقمة الخبز على حساب لقمة الكرامة، رغم ذلك، لكن كأقلية، كعشيرة، غاب عنها أيّ رمز اجتماعي واقعي يمكن أن ينتبه الناس لما يقوله، ساهم الأسد بهذا اليتم، بل خلق مزاجاً عند شريحة من الدروز لعداء جنبلاط وتهميش رمزية سلطان الأطرش، على اعتبار تجاوزه الزمن، والفكر التقدمي لا يحتمل الاقطاعية السياسية، وموقف رجال الدين الكبار كان هو نفسه، كما كان قبل تسعين عاماً ضد سلطان الأطرش ومع الاستعمار الفرنسي.
ربما يمكن تحميل فئة المثقفين، بل غالبيتهم، مسؤولية أكثر تجاه ما حدث وما أوصلنا إليه الأسد، لقد كانوا فعلاً عندهم القابلية للتذبذب والتملّص والهروب، وعندهم القدرة للظهور أحياناً وتقديم الوعظ الثوري الفكري الإستراتيجي، أيّ كانت انتهازية ببلاش، بدون ثناء مادي من النظام، وبدون تسجيل موقف أخلاقي تاريخي للقيم والجوفيات، حيث عادوا للمشاركة في إعادة إحيائها وتسويقها، في مسألة سيكولوجية الأقلوي، الأقلوي غير الاختياري، يعني المجبور أن يكون درزياً، حتى لو كان عنده دين الدروز وشيوخه وفكره بقيمة قشرة بصلة، لكنه لا يستطيع الانسلاخ، حتى لو أراد، يُعيده الآخرون إلى تلك الحظيرة بالغصب عنه، وبالتالي يصبح صوته الحر أكثر نشازاً وشذوذاً، ويصبح يصرخ بين فكي كماشة، بين مطرقة وسندان، وبعضهم يدفعه هذا للانحياز أكثر للدرزية، أو هكذا يراه البعض، وبعضهم يدفعه ذلك أكثر للبحث عن الآخرين غير الدروز والدفاع عن أي شيء يطالهم كي يبرهن أنّه ليس طائفياً.
حتى الآن، أتحدّث عن العوامل الذاتية تقريباً أو القابلية الذاتية لهذا التدجين، لكنه لا يجوز تقليل دور العوامل الخارجية في ذلك، وهنا أقصد بالذات الخطاب الآخر للمعارضة، وهنا المعارضة تضم في نظر الدرزي داعش والنصرة وعلوش والقرضاوي وغالبية من يقول “الله أكبر”، سيما ضعف مقاومة ذلك الخطاب في السنوات الأولى للثورة من قبل مثقفي الثورة، وخاصة المسلمين منهم، بل اجتهد العديد منهم لشرح وتفسير تلك السموم التي لم يستفد منها إلا نظام الأسد، وكلنا يعرف أنّه لم يستفد من البندقية الدينية إلا عائلة الأسد، وهذا شعور عام عند الدروز، حتى عند الذين يتفلسفون بترفع عن الطائفية، الدرزية أكثر من دين وأقل من أمة أو جماعة إثنية، يعني حتى اللي بيتشاطر وبيكتب، حتى المجلدات في الفكر التقدمي الوطني العلماني الكانطي السارتري الماركسي السبينوزي وما بعرف شو كمان، حتى هؤلاء المفكرين الدروز الذين تخطوا الدرزية بكتاباتهم وتنويرهم، عندما يرجع إلى قريته أو حارته أو أسرته، يرجع درزياً مع شرب المتي وأكل اللزقيات. هذا واقع، أنا لا أتجاهله، لأنّ ذلك لا يساهم في تجاوزه نحو مرحلة الوطنية ودولة المواطنة وثقافة المواطنة.
المسؤولية هنا متعددة، ويتحمل فقه التكفير جزءاً رئيساً في ذلك التقوقع، لأنّه فزاعة دائماً، تلقى الأرضية لدى الأقليات لتصديقها، وهكذا من خلالها يمكن تمرير الكثير من المنغصات “والقنابل” الاجتماعية العدائية للتعايش. راح أعطيك مثالاً بسيطاً: كانت تقدم إحدى النساء الدرزيات أحياناً الطعام لأسرة سنية نازحة تسكن عندهم، كانت تقدم لها الطعام بدوافع إنسانية أو العادات أو أي دافع آخر، وغالباً كانت تكتشف هذه الدرزية أنّ الأسرة الفقيرة السنية الهاربة النازحة اللاجئة، ترمي الطعام بالزبالة لأنّها تخشى أن يكون مسمماً أو لأنّه نجساً من أسرة دينها نجس وحرام، يعني الأرضية والقابلية موجودة، وفي المنعطفات الصعبة، يمكن تفعيلها وتكبير دورها إلى درجة التخندق بدون أسباب وجيهة. كلنا نعيش أزمة، وتوتر وضياع، كلنا نعيش حقبة يتم، نبحث عن مخلص خارج ذاتنا ومجموعاتنا، حتى أنصار الأسد يبحثون عن آخر يحميهم، لا يعرضهم للمسؤولية، لا يجعلهم شركاء في الجريمة، يمكن طلعنا كثير عن الموضوع، يعني بتعتقد حين أعبر عن دعمي لإسرائيل في اجتثاث هذا النظام وأشباهه وملحقاته وحلفائه المحليين.
لا أعرف أنّ إسرائيل، حتى لو جاءت، لن تتعامل معنا كمواطنين متساويين، لن نصبح أنداداً لمواطنيها، بل هي لا تريد شركاء، وتعرف أنّ شعوبنا تسير إلى حتفها وقبول حتى تلك “الوصاية” الإسرائيلية أو الأميركية أو الروسية، لأنّ كل الأبواب مسدودة أمامها إلا أبواب المقابر، وليس كل الناس مستعجلة على ملاقاة ربها. نحتاج ورشات عمل سورية، نحتاج إلى تأسيس ما يتلاءم مع الغد أو بعده، ما عاد يكفينا اليوم كل أو غالبية تلك المحفوظات الثورية التقدمية أو الدينية التي ساهمت في صياغة هذه الثقافة والعقلية التي تطبع غالبية شعوب منطقتنا. أنا أعتقد أنّه بدون تنظبف جروحنا، التاريخية منها والدينية، يصعب التأسيس لتعايش حقيقي ومحبة وقلوب صافية.
نحتاج قبل السياسة إلى تأسيس للسياسة، وهذا يحتاج إلى ثقافة جديدة تؤسس لأخلاق جديدة، أخلاق جديدة تساهم في بناء سياسة وطنية جديدة، ربما هجرة ملايين السوريين إلى أوربا وأسكندنافيا، تساهم بنقل تجارب ناجحة وطنياً ودينياً وأخلاقياً أيضاً، ربما تساهم في تسهيل خلق البدائل. منطقتنا كلها مرتبطة ببعضها، والتغيير الحقيقي قد لا يحدث في دولة دون الأخرى، لأن العدوى موجودة، ولأنّ دول العالم لن تتعامل معنا إلا من خلال مصالحها كما هي عادة منذ آلاف السنين.. آمل ألا تكون هذه الفضفضة “فاضية”.
ليفانت – غسان المفلح
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!